مودة ترامب لروسيا زائفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

دفع انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لإصابة الكثير من الأميركيين بحالة من الذهول والإحباط، أما روسيا على الجانب المعاكس، فتبدو بمعنويات مفعمة بالحماس، ويعد ذلك أمراً مفهوماً في حال استعاد المرء ما لم يتوان الديمقراطيون عن قوله خلال السباق الانتخابي، في أن انتصار ترامب هو انتصار لبوتين، إلا أن الأمر أكثر تعقيداً، ففي حال تجاوزنا في تفكيرنا العلاقات الثنائية، التي لطالما كانت في وضع متذبذب، وبشكل متكرر، بالنسبة إلى الإطار العالمي، وإن نجاح ترامب، يفيد بشكل حقيقي، بنهاية حقبة مهمة في العالم ودخول أخرى جديدة.

تراجع العولمة الليبرالية، التي تفاقمت بسبب الأزمة المالية في عام 2008، كان أمراً خارج مسار السياسة العالمية.

الرئيس الـ44 لأميركا، الذي فاز في انتخابات عام 2008 وسط أزمة مالية حادة كان أكثر وعياً من أي أحد في بلاده، بأن العالم كان في خضم تغير كبير، وأن أميركا لا يمكنها فعل الأمور بالطريقة ذاتها، التي اتبعتها في السابق. لقد كانت أميركا تخسر نفوذها عقب الإرهاق الكبر والواضح في عام 1990 و2000، وكانت بحاجة لمسار جديد.

ابتعد أوباما عن المجازفات المبالغ بها، وفهم أنه كان يتوجب على بلاده التركيز على المسائل المحلية، وأنه ليس بوسعها حل كل مشكلات العالم، ولكنه لم يرد قول ذلك بصورة علنية، أو أنه لم يتمكن من قول ذلك.

وليعوض عن تحفظه، اختار إعادة التأكيد على الخطاب بشأن واجبات أميركا العالمية، ليخيب آمال الجميع في نهاية المطاف، وذلك كل من أنصاره المتحمسين ومعارضيه.

ولكن الأهم من كل هذا هو أن الناس على امتداد العالم بدأوا يشعرون أن أميركا لم تكن تعرف ما الذي أرادته تحديداً، وتعجبوا مما إذا كان لا يزال بمقدورهم الاعتماد على الولايات المتحدة، وقد بدأ أوباما بالتخلص من الالتزامات العالمية لبلاده، في حين إبداء عكس ذلك علنياً.

ولم يخترع ترامب أي شيء جديد، فالكثير مما قاله عن السياسة الأجنبية خلال الحــــملة قد قيل مرات عدة قبل ذلك، بما في ذلك على أرفع مستوى. وعـــندما قال إن الفصل الخامس من ميثاق حلف شمال الأطلسي، «ناتو»، الذي يتعلق بالدفاع المشترك، كان له ثمن، وأن أولئك الذين يدفعون الأموال بجدية، يمكن إدراجهم في الحماية، تم التــــعامل مع الأمر باعتباره فضيحة.

ومع ذلك، ومن الناحية الفعلية، تم قول الأمر ذاته، ولكن بشكل أخف، وذلك من قبل باراك أوباما هذا العام، ووزير الدفاع السابق روبرت غيتس، وقتها، وذلك قبل 5 سنوات.

وبحسب ما صرح به غيتس: «في حال لم يتم إيقاف الاتجاهات الحالية في القدرات الدفاعية الأوروبية، فإن القادة السياسيين الأميركيين في المستقبل، قد لا ينظروا بأن عوائد الاستثمار الأميركي في حلف «ناتو»، أمر يستحق ذلك الثمن.

لقد صرح ترامب، وبشكل صريح، بما لم يجرؤ أوباما على قوله البتة، وهو أن أميركا ستركز على مصالحها الخاصة، ولا تريد أن تتحمل أعباء حراسة العالم بعد الآن، إلا أن هذا لا يعني العزلة، لأن تلك المصالح تتعدى هذه المسألة. وإلى جانب كل ذلك، ومن منطلق تصريحات ترامب، فإن القوة والاحترام أمران في غاية الأهمية بالنسبة له، وكذلك استخدام القوة الذي لا يمكن استبعاده.

إلا أن الاختلاف الحقيقي عن الإدارات السابقة، يكمن في التراجع عن التعزيز الأيديولوجي للديمقراطية ونموذج التنمية، الذي قدم تبريراً مفاهيمياً وقيمياً للوجود الأميركي العالمي.

وبالنظر إلى كل أعدائها، شكلت حـــقبة كلينتون- بوش فترة واحدة، بظهور وانتصار أميركا كالشرطي الوحيد في العالم، الذي يمكنه التدخل في شؤون العالم عندما الحاجة لذلك. إلا أن عهد أوباما- ترامب، وبصرف النظر عن طول أو قصر المدة، سترجع البلاد إلى مواقف أكثر اعتدالاً في ما يتعلق بمصالحها الوطنية، وستضع سياستها وخطابها على نحو يتماشى مع الاتجاهات الاقتصادية.

أصبح رد فعل روسيا على انتخابات ترامب أمراً إيجابياً على نحو غير مسبوق، ولكن لا ينبغي أن يكون هناك أي وهم، فترامب بالتأكيد لا يرغب بأي مودة مع روسيا،

فباعتباره براغماتياً، فإنه سيلقي بكل اللوم على المشكلات على سلفه، وسيحاول الحصول على دعم روسيا لسياسة البلاد الجديدة على الساحة العالمية. قد تكون الصين محل اهتمامه الأول، ومن المحتمل أن يطلب من روسيا «الابتعاد عن» بكين، مقدماً بعض المكافآت في المقابل. هذا بالتحديد ما لا يتوجب على روسيا فعله بالنسبة للعالم غير الغربي، الذي ينظر لروسيا باعتبارها شريكاً سيدفع البلدان الأخرى بعيداً عن تبني الولايات المتحدة.

لقد لعب«التهديد الروسي» دوراً غير مـــسبوق في الحملة الرئاسية في أميركا، وقد استخدمه الديمـــقراطيون كبش فداء يقدم ضد ترامب. وعلى الرغم مــــن ذلك، تبين أن معظم الناخبين لم يصابوا بالهلع، وأنهم بالكاد كانوا مهتمين بذلك الموضوع. كل التكهنات بأن ترامب مؤيد للكرملين ستذهب سدى على الأغلب.

ما من شك أن بوتين مهتم بترامب كونه قيادياً قوياً، وكلاهما يرفضان «التصحيح السياسي»، بكل قوة. ومع ذلك لا يمكن لأحد القول إن هنالك سياسة ستدفع إدارة ترامب نحو روسيا. وبالطبع تحب موسكو مواقف الرئيس المنتخب، في أنه لا يتعين على أميركا التدخل في أي مكان أو فرض وجهات نظرها على الآخرين..

ترحب روسيا بعودة البراغماتية في العلاقات الدولية وتراجع الأيديولوجية الليبرالية، إلا أن السياسة الواقعية، التي يميل ترامب لممارستها ستعني صراعاً شرساً وعنيفاً.

Email