ازدواجية المعايير في ملف الإرهاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

غياب العدالة الدولية على مدار العقود الماضية كان سبباً في حرمان الكثير من الشعوب المضطهدة والمغلوب على أمرها من حقوقهم المشروعة، بل إن عدالة قضاياهم الواضحة التي لم يكن من الممكن أن تخطئها عين ضاعت وسط ضبابية المعايير المزدوجة وسياسات الكيل بمكيالين أو حتى بأكثر من مكيال في التعامل مع القضايا المتماثلة، ما أدى إلى طغيان أصحاب النفوذ الدولي والقوة الغاشمة على أصحاب المبادئ والقيم، وكذلك تحويل الباطل حقاً وإظهار الحق باطلاً !

ولا شك في أن القضية الفلسطينية هي النموذج الصارخ عند الحديث عن هذه الظاهرة، فعلى مدار سبعة عقود واجه الفلسطينيون وقضيتهم ظلماً فادحاً ليس فقط نتيجة غياب العدالة الدولية، ولكن بسبب تلك المعايير المزدوجة في التعامل مع حقوقهم المشروعة، وبلغت حد اعتبار المقاومة الفلسطينية المشروعة عملاً إرهابياً، بينما رأت في الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الشعب الفلسطيني وتخريب مدنه وتجريف أراضيه وسجن أبنائه «دفاعاً مشروعاً عن النفس»، ما شكل مظلة رسمياً للكيان الصهيوني، لمواصلة اعتداءاته على الأبرياء، وحرمانهم من حقوقهم المشروعة!.

وليس بعيداً عن ذلك ازدواجية المعايير الدولية تجاه التعامل مع العمليات والاعتداءات الإرهابية على الصعيد العالمي، فالهجمات التي وقعت في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، خلال السنتين الماضيتين على سبيل المثال هي عمليات إرهابية تستحق الشجب والإدانة والاصطفاف الدولي لمواجهتها، بينما الهجمات الإرهابية، التي تتعرض لها مصر هي صراعات طائفية وتقصير من جانب أجهزة الدولة التي يجب أن تكون أكثر يقظة وتأهباً لحماية رعاياها خاصة الأقليات، وتلك هي المعادلة المغلوطة والمعايير المزدوجة، التي تتعامل بها أطراف دولية في التصدي لقضية الإرهاب، وبكل تأكيد هي معادلة خطرة، لأنها تشكل أضخم غطاء للعمليات الإرهابية، ليس فقط في دول العالم الثالث ولكن أيضاً في العالم الغربي.

كم كان غريباً أن وسائل إعلام دولية ومسؤولين غربيين على مستويات مختلفة بادروا إلى تحميل الدولة المصرية مسؤولية ما حدث في الكنيسة البطرسية ومقتل وإصابة العشرات من المصلين الأبرياء يوم الأحد قبل الماضي، وعدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لحماية «الأقلية القبطية»، دون أن تنتبه جيداً إلى أن ما حدث هو إرهاب ضرب العالم الغربي في أكثر من مناسبة دون تحميل أي عاصمة أوروبية مسؤولية ما حدث مع غياب حديث التقصير، وبروز مظاهر التكاتف والتعاطف بدلاً منه.

من المشاهد المثيرة للدهشة في هذا السياق أن المبعوث الدولي إلى ليبيا مارتن كوبلر عندما زار مقر الكنيسة المصرية في قلب القاهرة، لتقديم واجب العزاء في الضحايا- رغم أنه ليس مكلفاً بذلك من الأساس- أدلى بتصريحات قال فيها إنه يتعاطف بشدة مع «المجتمع القبطي» في مصابه، بينما المفترض أن يتعاطف مع «المجتمع المصري» بأكمله بعدما تعرض لسلسلة من الهجمات الإرهابية الدامية، تزامناً مع حادث الكنيسة البطرسية.

وعلى هذا المنوال جاءت مواقف بعض المنظمات الدولية واستنكرتها «الخارجية المصرية» وخاصة البيانين الصادرين عن منظمتي «العفو الدولية» و«هيومان رايتس ووتش»، حيث اختارت المنظمتان استغلال هذا الحادث لتذكية خطابهما المتحيز، الذي تحركه دوافع سياسية، بشأن وجود توتر طائفي في مصر، فضلاً عن الإيحاء بوجود تقصير من جانب الحكومة المصرية في حماية الأقباط المصريين كما سبق الذكر، مع التلميح بوجود قصور في النظام القضائي المصري، الأمر الذي يتنافى مع الواقع جملة وتفصيلاً.

ورغم إبداء كلتا المنظمتين«عدم التسامح» تجاه أي انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان، فإنهما أظهرتا تسامحاً غير مقبول تجاه الإرهاب، بل من المؤسف والمخزي أيضاً تقاعسهما عن وصف الحادث بالإرهابي، فضلاً عن عدم إظهار التعاطف مع الضحايا وعائلاتهم، كما تعمدت المنظمتان وكذلك وسائل إعلام عالمية غض الطرف عن رد الفعل السريع من جانب الحكومة والقيادة المصرية والبرلمان تجاه الحادث، في تلاحم واضح مع المجتمع لإظهار كل أشكال الدعم لأسر الضحايا والتخفيف من آلامهم، فضلاً عن تجاهلهما التقدم، الذي تم إحرازه في التحقيقات الجارية، بشأن الحادث من أجل إنفاذ العدالة ومحاسبة مرتكبي هذا الجرم.

ولا شك في أن هذا النهج الانتقائي في التعامل مع الإرهاب إنما يهدف فقط إلى تحقيق مصالح ضيقة، كما يعكس تحليلاً بعيداً عن الواقع، لغرض وحيد هو انتقاد الدولة المصرية، في تجاهل واضح لضراوة الإرهاب الذي يحصد أرواح الأبرياء يوماً بعد يوم. هذا النهج لا يشكك فقط في مصداقية المعيار الأخلاقي، الذي تدعى بعض المنظمات تبنيه، ولكنه في الواقع لا يوفر المناخ الملائم لمكافحة ظاهرة الإرهاب البغيضة.

ويدفعنا ذلك مجدداً إلى تأمل ظاهرة «الإرهاب المعولم» على حد وصف المفكر الشهير السيد ياسين وينسبه إلى السياسات الأميركية الخاطئة خصوصاً حين تحالفت مع تنظيم «القاعدة» للحرب ضد القوات السوفييتية، التي احتلت أجزاء من أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، هذا التحالف الأميركي مع «القاعدة» كان السبب الرئيس في امتداد «الإرهاب المعولم»من بعد، وسبب ذلك أن الولايات المتحدة التي استخدمت «القاعدة» أداة لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان سرعان ما تخلت عنه، بعد أن قويت شوكته، وأثبت أنه قوة ينبغي أن يحسب حسابها، ومع ذلك فقد تركته الولايات المتحدة في العراء بعد أن استخدمته، ولكن التنظيم ذاته عاد ليرتكب سلسلة من الأعمال الإرهابية يشيب لهولها الولدان.

Email