نستدعي ونصنع

ت + ت - الحجم الطبيعي

نستدعي الماضي، لكن نملك الحاضر ونصنع المستقبل، تلك هي الحالة التي يعيشها أبناء الإمارات، ولا تحدث عند أيام الوطن الخالدة وأعياده فحسب، لكنها مزاج عام يعيشه أبناؤه، والمقيمون على أرضه يشاركونهم الأفراح وأوقات الشدائد، والشاهد ما تراه في أرجاء الوطن، احتفال بعيد الاتحاد واحتفاء بالشهداء الأبرار، وهذه حالة صادقة من التآزر والتماسك في وطن، غلفه التسامح وحماه من كل راغب في إثارة الفتن والقلاقل.

والمعادلة المعجزة التي حققها أبناء الإمارات، في أن حاضرهم امتداد لماضيهم الشاخص دائماً في قلوبهم وعقولهم، وهو الأساس الذي يتم البناء عليه والانطلاق من ثوابته، وتلك حالة فريدة، تستحق التوقف قليلاً في تعامل الشعوب مع الماضي، ذلك أن كثيراً من الأمم يحال بينها وبين ماضيها لكيلا ترى إلا الحاضر، وكأنها منقطعة الصلة بما تم، وأن البناء يبدأ من المربع الأول، باعتبار أن ما كان يمثل صفحة طويت لا يجب تذكرها أو التعويل عليها.

فيجد الفرد نفسه مقطوع الصلة بما قضاه من عمره، وكأن ما عاشه كان ضرباً من العبث، ضاعت فيه سنوات عمره هباء منثوراً، وأن القناعات التي عاش عليها باتت كدخان تطاير في الهواء وتلاشى، وأن عليه أن يهيل الرماد على ما مضى ليبدأ من جديد، فيفقد الثقة في الماضي، ويتوجس من الحاضر ولا شأن له بالمستقبل.

غير أن الحالة الإماراتية متصالحة مع رحلة البناء، تعتز بتاريخه وسيرة من قام به، وتجعلهم تيجاناً على الرؤوس، وفي ذلك دروس في الوفاء والانتماء يتعلمها الأجيال، والتأسيس لمنهج النابهين، والطريق إلى النجاح الذي يبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون، كما أن استدعاء أبناء الإمارات للماضي ليس من باب التحسر عليه، لكن للرغبة في استلهام الدروس وأخذ العبر منه والاستقواء والاعتزاز به.

وذلك ملمح آخر، ذلك أن الشعوب عندما تفقد الحاضر لا تجد غير استدعاء الماضي كنوع من التعويض، وعندما تفقد السيطرة على واقعها، تتذكر كيف كانت في عقود خلت، وهو نوع من عدم القدرة على الفعل في المشهد الحاضر والانسحاب الحضاري والعيش على ذكريات ماضٍ لم تستفد منه أو تقدر على الاستمرار بنفس زخمه.

غير أن الحالة الإماراتية في الاعتزاز بالماضي تواترت مع امتلاك الحاضر وترسيخ المكان والمكانة، وهو في تقديري ما انتقل بزخم الاتحاد، الذي أخذها من وجود المؤسس وإخوانه الذين صنعوا تلك المعجزة الخالدة في الوقت الذي كانت تنهار فيه الاتحادات في عالمنا العربي وتنفك أواصرها، كانت الإرادة الاتحادية، بقوة الفكرة، وليس بفكر القوة، تشق الطريق إلى نقطة الوصول، وهي المرحلة الأولى من الاتحاد، والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة التأسيس والبناء.

غير أن المرحلة التالية من تأسيس الاتحاد بعدما تسلم الراية قادة تربوا على أعين المؤسسين، هي مرحلة الانطلاق بسفينة الاتحاد إلى المنافسة والريادة وتحقيق إنجازات معجزة شعر بها المواطن والمقيم، وتعجب منها العالم وقدرها، هنا زخم آخر يأتي من امتلاك أدوات العصر والحركة المحسوبة والمتنامية والمتجذرة، وما زال الماضي في ذلك منهلاً عذباً نستقي منه الدروس والعبر، ونستمد منه قوة التأسيس.

غير أن ما تحقق من إعجاز بشري على أرض الإمارات، لم يجعل قيادتها وشعبها يتوقفون أمامه طويلاً، لكيلا تأخذهم زهوة الفرح ونشوة السعادة من التيقظ للمستقبل والتحوط له، والمساهمة في وضع قواعد التعامل معه، والنظر إلى فضاءات واسعة، يجب أن نعمل من أجل أن نصل إليها، وأن مهارات يجب أن نكتسبها، ومجالات علينا أن ننميها، واستثماراً في البشر واجب تعاظمه، باعتبار أن قوة الإنسان تأتي بما يملكه من فكر في عالم لم تعد قوته بالكم، بقدر ما هو بالكيف والجاهزية.

إن المعادلة العبقرية، التي أوصلت قافلة الظفر الإماراتية، عندما اعتزت بماضيها واستدعته، ولم يكن ذلك تحسراً بقدر ما كان اعتزازاً وفخراً، ولم يشغلها ذلك عن بناء واقع صلب، لم تشغلها نشوة نجاحاته عن النظر إلى المستقبل والمشاركة في صنعه، حتى وإن كان المشهد معقداً، لكن الإمارات قيادة وشعباً، تعرف طريقها، وماذا تريد أن تحققه، وهو من أهم عوامل نجاح حركة الشعوب.

فضلاً عن أن منهجها في ذلك ناتج عن فكر وطني خالص، نأى بنفسه عن الشعارات والأيديولوجيات، وسعى بشكل واضح إلى إسعاد شعبه عبر آليات ملموسة، يجدها في تجويد حياته يوماً بعد يوم، يتماهى مع ذلك دور إنساني لم تتخلَ عنه الإمارات يوماً ما، ودور إيجابي في محيطها الإقليمي والدولي، نابع من مسؤولية حضارية، فتفانى أبناؤها في الزود عنها وفدائها بالدم والروح، ونالت احترام وتقدير العالم الذي سعى إليها وقصد دارها.

Email