الدرس التركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المؤكد أن التغيّرات السياسية، الجذرية أحياناً، التي حدثت في تركيا خلال العقدين الأخيرين من السنين، لعبت دوراً أساسياً في ذلك المشهد المدهش الذي يجعل إسطنبول أو إزمير أو أضنة أو حتى أنقرة، تبدو ولا سيما في فصل الصيف وكأنها مدن عربية، على الأقل في شوارعها وساحاتها وأسواقها.

وهذا من دون أن نتناول من الموضوع جانبه السياسي المباشر ونتحدث عن مئات ألوف السوريين اللاجئين إلى تلك الجارة التي كانت شبه مجهولة بالنسبة إلى العرب، طوال القرن العشرين، إن لم تبد في صورة العدو أو صديق العدوّ.

أجل كان ثمة في الأمر دور للسياسة. ومع هذا سنقول هنا بكل بساطة إن التلفزة لعبت دوراً أساسياً في تلك الرغبة العملية التي بدأت تدفع العرب إلى «اكتشاف تركيا»...

وعندما نتحدث عن التلفزة هنا نعني بالتأكيد تلك المسلسلات التركية التي غزت الشاشات العربية خالقة نوعاً من التآلف من طريق التراكم، بين ملايين المشاهدين العرب والمشهد التركي الذي سرعان ما صار جزءا من يومياتهم، وجعل ثمة نوعا من «حلم تركي» يتفاعل في رؤوسهم سواء كانت المسلسلات جيدة – وتلكم حال بعضها – أو سيئة – كما حال البعض الآخر – أو بين بين كحال الغالبية.

بيد أن التقييم الفني الجمالي أو حتى الاجتماعي ليس غايتنا هنا. فله مجالات أخرى. ما يهمنا هنا هو التوقف عند هذه الظاهرة للتأكيد على ما كان لها من تأثير اجتماعي ومعرفي تمكّن على الأقل من أن يقرّب تركيا التي كانت شديدة البعد من العرب.

ويقرّب بالتالي شعوبا بأسرها من بعضها البعض وربما يعيد إلى الأذهان ماضياً مشتركاً ويكشف كم أن الحضور التركي في حياتنا العربية طوال نحو نصف ألفية من السنين، ما زالت له بقاياه الكامنة التي ما إن حان أوانها حتى انبثقت، منسية الكثر قرون الاحتلال العثماني الطويلة، وعقود سوء التفاهم التي تلت ذلك.

لكن المهم في هذا كله إنما هو الدرس الذي يمكن استخلاصه في حياتنا العربية ولا سيما في السنوات الانتقالية التي تعيشها مجتمعاتنا. وهذا الدرس يتعلق هنا بالتلفزة نفسها خارج إطار جانبها التركي الناجح. ففي هذا الجانب استطاعت تلك التلفزة أن تحقق أعجوبة لقاء بين الشعوب تبدّت فرصة نادرة واستتبعت نتائج في غاية الأهمية.

وبالتالي، إذ نتحدث عن هذه الظاهرة نتساءل: ونحن؟ أية أعجوبة صغيرة كان يمكن للتلفزة أن تحققها لدينا وفي حياتنا العربية لو أننا تعلمنا الدرس التركي؟ بل متى تكفّ التلفزات العربية عن أن تكون فرصا ضائعة في حياتنا العربية المشتركة؟ فهي بالتأكيد فرص ضائعة على المستوى العربي على الأقل.

وإذ نقول هذا لا يخطر في بالنا بالطبع لا نشرات الأخبار التي تقوم يوميا بجولات دامية بين المناطق العربية. ولا برامج الهواة التي قد ترينا أن ثمة راقصات جميلات في تونس أو أطفالا ساحري الصوت في سوريا أو العراق، أو مغنين مبهرين في المغرب أو الخليج، أو شعراء «حلمنتشيين» في مصر وغيرها.

فكل هذا لا يوصل الى تعارف حقيقي بين المغربي والعراقي أو بين الجزائري والمصري أو اللبناني أو العُماني... الخ. كذلك فإن برامج الحكي السياسي تربك التقارب العربي أكثر مما تريحه...

ما يعنينا هنا هو بالتحديد ذلك الفعل والتأثير اللذان يمكن أن تمارسهما الأعمال الفنية الحقيقية إذ يتم تبادلها بين البلدان العربية. ولكن – طالما أننا نتحدث عن أزمان انتقالية – في ارتباط بات لا بد من قيامه بين التطلعات الحقيقية للرغبات التنويرية العربية. فالحقيقة أن الوقت قد حان لـ«استخدام» الإبداع التلفزيوني العربي الحقيقي منطلقاً لتقديم أعمال درامية أو غير درامية وربما تاريخية .

كذلك، تصور كل تلك الشعارات التي لو نتوقف عن المناداة بها منذ اكتشفنا «الأوبئة» التي تعتمل في الجسد والروح العربيين، متذكّرين أن في تواريخنا لحظات كنا فيها أفضل تعاملا مع المرأة والآخر والحداثة والتقدم ومسألة دخول زمن العصر، ومواكبة الأجيال الصاعدة في مسيرة حياتها. وكل تلك الأمور التي تشكل عصب ما ينبغي على اهتماماتنا أن تنصبّ عليه.

ففي يقيننا أن التلفزة تبدو كلية القدرة في هذا السياق لو عرفنا حقاً كيف نتعامل معها، من ناحية إنطلاقاً من «الدرس التركي»، ولكن من ناحية ثانية إنطلاقاً من درس نتعلمه من كل تلك الفرص الضائعة التي أهدرناها منذ صارت التلفزة جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية وفاعلاً أساسياً فيها.

 

Email