عطف بلفور

ت + ت - الحجم الطبيعي

ترتفع في بريطانيا بين حين وآخر، أصوات تطالب الحكومة البريطانية بالاعتذار عن وعد بلفور، لما سببه هذا الوعد من ظلم ومآسٍ للشعب الفلسطيني داخل وطنه، وفي الشتات خارجه. يشارك في ذلك أكاديميون بريطانيون ومفكرون ومؤرخون، ومن هؤلاء، السيدة «بيتي هنتر» رئيسة حملة «التضامن مع فلسطين»، حيث أعلنت أن من الواجب البريطاني الأخلاقي والقانوني، أن تعتذر الحكومة عن وعد بلفور.

ومنهم المؤرخ البريطاني المعروف كارل صباغ، حيث أعلن أن بريطانيا كانت على علم مسبق بالأضرار التي ستلحق بالفلسطينيين حال تنفيذ الوعد، ولعل آخر المحاولات للمطالبة بهذا الاعتذار من الداخل البريطاني، جاء من قبل البارونة جني تونغ، حيث عقدت في شهر أكتوبر المنصرم، ندوة في مجلس العموم البريطاني، حول أهمية الاعتذار والأبعاد المترتبة على ذلك.

وفي موازاة ذلك، تسعى فعاليات عربية وفلسطينية في بريطانيا، من خلال حملة تستمر على مدى العام المقبل، الذي يصادف مئوية الوعد، لحشد التأييد لمثل هذا الاعتذار، ويشمل ذلك عدداً من أعضاء البرلمان ومجلس حقوق الإنسان في جنيف، إضافة إلى ندوات ومحاضرات، ونشر كتب ومقالات ودراسات تصوب تجاه تأييد هذا المطلب.

ففي 2/11/1917 م، بعث وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، رسالة خطية إلى كبير اليهود في بريطانيا، اللورد ليونيل ولتر روتشيلد، يبشره فيها:

«إن حكومة صاحب الجلالة، تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قوي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».

لم يكن الوعد حبراً على ورق، ولا المشاعر العاطفية التي احتواها كانت مجاملات لتطييب خواطر اليهود، بل تحوّل الحبر إلى عمل دؤوب، وانعكست العاطفة خططاً واستراتيجيات، تم تنفيذها بدقة وعناية وجهد جهيد، فقد تبع ذلك أحداث جسام، نتجت عنها تغييرات جغرافية وديموغرافية على المستوى الإقليمي والعالمي، فأصبح هذا التعاطف مع اليهود مشروعاً استعمارياً، حمل البطش والتنكيل والتهجير للشعب الفلسطيني الذي دفع ثمن ذلك العطف، حسبما اعترف به بلفور نفسه في مذكرة نشرتها وزارة الخارجية البريطانية، ضمن ما أفصحت عنه من وثائق عن الفترة 1919-1939، كما سعى بلفور لكسب ود وتعاطف المجتمع الدولي في تمكين اليهود داخل فلسطين، وشاركت عناصر فاعلة في هذا المجتمع في اقتلاع السكان الأصليين، وإحلال طوائف يهودية أتت بهم لفيفاً من مختلف الأوطان، ليفرضوا على العالم العربي والإسلامي واقعاً ما زال المسلمون يرفضون حاله ومآله.

ليس هذا فحسب، بل سعت قوى مؤثرة في المجتمع الدولي، ولا تزال تمنح الحصانة لممارسات بني صهيون وجرائمهم في الأراضي الفلسطينية، فكلما أوشك الفلسطينيون، ومعهم العرب والمسلمون، على الحصول على حق من حقوقهم داخل مجلس الأمن الدولي، رفعت هذه القوى «كارت» الفيتو، فأجهض القرار وتخيبت الآمال.

لقد كان العطف البلفوري خاصاً باليهود، وبكل من ينتمي للديانة اليهودية من مختلف الأعراق والقوميات، أما غيرهم، فلا بواكي عليهم، ولا إحساس بالنزعة الإنسانية تجاه الظلم والقهر والاستبداد الذي نزل بأصحاب الأرض.

سيطوي التاريخ عمّا قريب، صفحات قرن من الزمان على ذلك العطف، في وقت تشهد الإنسانية مآسي كبيرة، يعاني منها سكان دول الجوار الفلسطيني، ففي سوريا، تدمر مدن وتمحى قرى، ويهيم اليوم خمسة ملايين سوري على وجه الأرض وفِي بحارها، بحثاً عن الأمن والأمان، وبالمثل يحصل في العراق، وهناك في الشرق الإسلامي، يعيش على الحدود الأفغانية الإيرانية والباكستانية، ستة ملايين مهاجر ومشرد، في ضنك من العيش وعرضة للابتزاز السياسي، بل استغلت إحدى دول الإقليم أولئك الفقراء والمساكين، فأرسلتهم للقتال في العراق وسوريا، مقابل قطعة رغيف تقتات عليها عوائلهم في أفغانستان.

يأخذ الحديث عن وعد بلفور، أبعاداً كثيرة ومتشعبة، لا يمكن حصرها في مقال، لكنه من المؤكد أن وراء الوعد عواطف جياشة، وحب محسوس ملموس تجاه الطائفة اليهودية والفكر الصهيوني، لسنا بصدد تفنيدها وتحليل أسبابها ومسبباتها، فلذلك مقام آخر.

كما أن ما يؤكده الشاهد والمشهود، أن ذلك كله خلّف تغييرات جغرافية وديموغرافية، وتسبب في حروب سجال، ومواقف سياسية غير عادلة، وظهور تيارات فكرية وأيدلوجية يعاني منها العرب والمسلمون أكثر من غيرهم، ولعل الحملة لأجل كسب معركة «الاعتذار» عن ذلك الوعد، تحرك سكون ليل مظلم يحيط اليوم بالقضية الفلسطينية، في مجتمع دولي يقوده قوم هم الخصم والحكم.... فهل من مدّكر؟!

Email