«العالمية».. ذلك الداء العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

سؤال: هل قرأتم في حياتكم أن مواطناً أو صحافياً إيرلندياً، وصف مواطنه جيمس جويس، صاحب التحفة الروائية «يوليسيس»، بأنه كاتب عالمي؟

، أو هل سمعتم أحداً يصف بيكاسو أو بيتهوفن أو مارسيل بروست أو غيرهم من عباقرة الإبداع في العالم، بأنهم عالميون؟، أو حتى الفنانة أنجيلينا جولي، التي تذرع العالم كله سعياً وراء التخفيف عن آلام وبؤس لاجئي هذا العالم، وتحديداً لصالح الأمم المتحدة، وبالتعاون معها، هل سمعتم أحداً في أي مكان من العالم، خارج العالم العربي، يضيف إلى اسمها حين الحديث عنها، صفة فنانة عالمية؟، لا نعتقد.

ومع هذا، تمتلئ الندوات والجلسات العربية، وحتى المؤتمرات الإبداعية والأدبية والفكرية، بتوصيف «عالمي»، يتواكب مع العديد من أسماء عرب نجحوا في الخارج، أو مع التحسّر، لأن ثمة كثراً في المقابل لم ينجحوا – وهنا غالباً ما يُعزى عدم النجاح إلى مؤامرات تبدو «صهيونية» في أسوأ حالاتها.

والطريف المحزن، أن ثمة من يعزو حتى نجاحات «العالميين» أنفسهم إلى ما يشبه تلك المؤامرات. وراجعوا في هذا السياق، ما قيل وكتب عن «نوبل» نجيب محفوظ أو أحمد زويل، أو السعفة الذهبية التي نالها محمد الأخضر حامينا أو يوسف شاهين.

الكلام على هذه «العالمية» لا يتوقف إذاً على ألسنة المبدعين العرب وغيرهم... تطلّعاً إليها، أو يأساً من الدنو منها، أو شجباً لمن حصلوا عليها. في الأحوال كافة هي حاضرة، ولكن دائماً دون أن يقول لنا أحد ما هي هذه «العالمية»؟، ما شروطها؟ ما مقوّماتها؟ وكيف السبيل إليها، إن لم يكن عن طريق ممالأة من يمنحونها..

وبالتحديد، ذلك العالم الغربي الرديء، الذي تفترضه التوصيفات كتلة متجانسة، لا تتوقف عن التآمر ضدنا، وصولاً إلى حرماننا من مبدعينا بتحويلهم إلى «عالميين». وتقول هذه الفرضية إن العالمية هذه لا تُمنح إلا لمن سار من بيننا خارج الدرب المستقيم.

باختصار، تحولت تلك «العالمية» المنشودة الميؤوسة الممنوحة بالقطارة والمرفوضة حين تصل، إلى داء عربي مستديم، لعل الراحل جورج طرابيشي كان على صواب حين ربطه بالجرح النرجسي، الذي يعتمل لدى فئات معينة من مثقفين عرب...

ومرة أخرى، نجدنا نتساءل عن ماهية هذه العالمية، لأننا إذ بحثنا عنها طويلاً لم نجدها في أي مكان خارج «الشكوى» العربية الدائمة. ومن هنا، نودّ أن نهمس في آذان هؤلاء الشكاة، أن ليس في الإبداع ما هو عالمي، إذا افترضنا أن العالمية يتعين أن تكون نقيض المحلية. فالإبداع إما أن يكون إبداعاً، دون توصيف من هذا النوع، أو لا يكون.

كل إبداع هو نتاج موهبة مبدعه ومعرفته ورغبته في أن يعبر عن نفسه بلغة ما، هي في أغلب الأحيان لغته الأم. والإبداع نظرة يلقيها المبدع على ما يعرفه أكثر من أي شيء آخر: بيئته ومجتمعه وهمومه...

وهذا ما يكون محلياً عادة بالمعنى الفردي والجماعي. المبدع الحقيقي، لا يكتب ليغزو العالم، بل ليعبر عن نفسه. وليس ثمة في عرفنا كاتب يكتب لـ «العالم»، وليصبح عالمياً. هو يصبح جزءاً من زمن العالم، بمجرد أن يكتب ويُقرأ. وفي هذا المعنى، على سبيل المثال، يكتب أورهان باموك «ثلج» أو «الكتاب الأسود» عن بيئته، وعن قوم يعرفهم. وحين تُعطى له نوبل، لا تعطى له لأنه عالمي، كما أنها لا تجعل منه «عالمياً».

كتاباته تدخله زمن العالم بالتحديد، لأنها كتابة محلية نابعة من المكان والمجتمع والذات التي يعرفها جيداً. وما نقوله عن باموك هنا، يمكن قوله عن الآلاف من المبدعين من أمثاله، من توماس مان إلى نجيب محفوظ، ومن السينمائي جون فورد إلى سلفادور دالي، ومن شوستاكوفيتش الى بافاروتي....

وكلما كان المبدع أكثر تعبيراً عن حميميته وحميمية مكانه، كان دخوله إلى زمن العالم أكثر سهولة وفاعلية... أما أن نمضي وقتنا في التفريق بين مبدع بات «عالمياً»، لأن «عدوّنا» الغربي اعترف به، وآخر لم ينله «شرف ذلك الاعتراف»، فمضيعة للوقت وهدر للعقل، وتعبير عن سخافة لا علاقة لها بأي إبداع حقيقي.

إنها في أحسن الأحوال، ترهات يتسلى بها الفاشلون، تعبر ليس عن إخفاقهم في أن يكونوا «عالميين»، بل تحديداً عن إخفاقهم في أن يكونوا أصلاً مبدعين. وذلكم هو في اعتقادنا لبّ المشكلة!

 

Email