نساء للأزمان المقبلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد لا نحب مارغريت تاتشر، ولكن قد نكنّ لها شيئاً من الاحترام. عدم الحب تعاطفاً مع الأرجنتينيين الذين فرضت عليهم حرباً ظالمة ذات يوم، ومع الأيرلنديين الذين تركت أبناءهم يهلكون في سجونها مضربين عن الطعام. أما الحد الأدنى من الاحترام فلأنها عرفت كيف تكون سيدة دولة أرجعت بلادها إلى ازدهار اقتصادي واجتماعي مدهش بقبضتها الفولاذية.

وقد لا تعجبنا أزياء ميركل وتلك العجرفة البادية في ملامحها، لكنها بالتأكيد تعتبر اليوم واحدة من أعظم رؤساء الدول في عالمنا، بل أكثرهم إنسانية إن حكمنا عليها من خلال موقفها من المهاجرين وصمودها فيه رغم تأثيره السلبي الخطير على شعبيتها في بلادها.

ونحن لن نحب غولدا مائير بالتأكيد ولن تكون لها لدينا أية ذكرى طيبة، ومع هذا قد يستوقفنا ما أُثر عن رئيس حكومة شاركت فيها هو دافيد بن غوريون من أنه يعتبرها «الرجل الوحيد» في حكومته!

وأقرب إلينا كثيراً، من المؤكد أن أم كلثوم لا تزال حتى اليوم تعطّر ما تبقى من رومانسية في حياتنا العربية البائسة. لكن أم كلثوم نفسها كانت تلك المرأة التي لفّت العالم ذات يوم بعد هزيمة العام 1967 لتجمع المساعدات لجيش بلادها ما جعلها حاكمة حقيقية على قلوب الملايين.

طبعاً هذه ليست سوى نماذج أربعة اخترناها هنا بشكل شبه عشوائي لما تحمله من دلالة تخدم ما نريد الوصول إلى قوله. وكان في إمكاننا أن نملأ هذه الصفحة كلها بلوائح لا تنتهي بأسماء سيدات عبرن التاريخ منذ هيباتيا، فيلسوفة الإسكندرية الشهيدة في القرون الأولى للمسيحية، وصولاً إلى ملايين النساء اللواتي يقتحمن اليوم أسواق العمل ومنصّات الإبداع في أماكن كثيرة من هذا العالم بما في ذلك عالمنا العربي الذي يقال عنه دائماً أنه الأقل اهتماماً بإعطاء المرأة فرصتها.

وكلهن نساء يجمع بينهن قاسم مشترك أساسي هو القدرة على – والرغبة في – التلقّط بالفرصة ما إن تلوح أو تُعطى لهن، ليستأنفن خلالها معاني ذلك القول المأثور المنسوب إلى الاقتصادي المصري الكبير طلعت حرب في عشرينيات القرن الفائت حين وقف محيّياً الفنانة عزيزة أمير بعد انتهاء العرض الأول لفيلمها الذي بات منذ ذلك الحين يُعتبر باكورة الإنتاج السينمائي المصري، قائلاً لها: أهنئك يا سيدتي، لقد فعلت وأنت المرأة، ما عجز عنه الرجال!

طبعاً قد يكون في ما قاله حرب يومها بعض المبالغة. لكن الذي لا شك فيه هو أن المرأة لا تتوقف عن إثبات ذلك في كل مرة وصلت فيها إلى مكانة أو منصب. ومن الصعب طبعاً اعتبار الأسباب بيولوجية أو جينية. هي في نهاية الأمر اجتماعية تتعلق أولاً بالجدّية التي تسم عادة عمل المرأة وهي ترغب في أن تثبت، أكثر بكثير مما يفعل الرجل، أنها على حجم المتوقَّع منها.

فإذ نعرف أن وجود الرجل في أي منصب أو مكانة هو من تحصيل الحاصل، حتى في أرقى المجتمعات، تشعر المرأة دائماً أن عليها حقاً أن تثبت استحقاقها لما تصل إليه أو حتى «يُعطى» لها، ومن هنا ما نلاحظه من جدّية الإبداعات التي تحققها النساء ولا سيما في مجالات الإبداع الفني والأدبي والعلمي والوظيفي.

ومن المرجح أن هذا الواقع، أكثر بكثير من النفور الذي يستشعره كثر في أميركا اليوم إزاء المرشح الجمهوري دونالد ترامب، هو ما يدفع غالبية كبرى، من الناخبين الواعين على الأقل، إلى ترجيح كفة هيلاري كلينتون. فهؤلاء، وإلى حد كبير استناداً إلى تجارب التاريخ القديم والحديث التي تخبرنا عن الجهود التي تقوم بها المرأة في شتى المجالات، بما فيها السياسة، يقول لسان حالهم: لمَ لا نجرب المرأة هذه المرة على رأس الولايات المتحدة، لقد نجحت دائماً حيث وصلت، وعلى الأغلب سوف تنجح هنا.

قد تفوز كلينتون وقد لا تفوز. لكنها بالتأكيد تمكنت فعلاً من أن تجعل من نفسها علامة في التاريخ الأميركي الحديث، والتاريخ العالمي أيضاً. ومن المرجح أن فوزها، لو تحقق، سيضيف اسمها إلى أسماء كل هاته السيدات اللواتي وإن لم يجعلننا، بعد، نعيش في عصر النساء.

ولم يُعدننا بعد إلى العصر الأمومي (الماطريركية)، فإنهن بكل تأكيد ساهمن ويساهمن جميعاً في رسم صورة زمن نعيشه باتت المرأة تلعب فيه دوراً أكبر وأكبر بكثير مما كان يُخيّل لكثر قبل ثلث قرن أو أقل. دوراً برسم المستقبل.

 

Email