شمعون بيريز وأسطورة السلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

تناقلت الصحف العالمية نبأ وفاة الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بريز في 28 سبتمبر على اعتبار أن حمامة السلام أفضت روحها إلى بارئها دون أن تحقق هدفها المنشود في سلام عادل بين العرب، والفلسطينيين خاصة، والدولة العبرية. وقد رثاه الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن إسرائيل قد فقدت جوهرها بفقدان بيريز. وقد تعمدت كثير من المرثيات في إخفاء، أو تغافلت، بعض التفاصيل، التي قد لا تدعم الرواية الرسمية لجهة أن بيريز داعية سلام.

ترعرع بيريز سياسياً في حجر الزعيم الإسرائيلي ديفيد بن غوريون، الذي كان أول رئيس وزراء لإسرائيل، ويعتبره الكثير الأب المؤسس للدولة اليهودية في فلسطين. وقد اشترك بيريز في حرب 1948، واشترك في التطهير العرقي لفلسطين، الذي أفضى إلى طرد نحو 750 ألف فلسطيني. وقد صعدت أسهم بيريز كثيراً في المؤسسة الإسرائيلية بسبب رعاية بن غوريون له، والذي أصبح يتقلد مناصب عدة وأهمها مدير عام وزارة الحرب، وكان عمره لا يتجاوز التاسعة والعشرين.

وقد كلفه بن غوريون بالتأمر مع فرنسا وبريطانيا للقيام بالعدوان الثلاثي على مصر. وقد كان لبيريز هدف استراتيجي من التعاون مع هذه الدول وخاصة فرنسا، فإضافة إلى أطماع لاحتلال سيناء وإعطاء عمق استراتيجي لإسرائيل، اشترط بيريز الحصول على مفاعل ذري من فرنسا مقابل مشاركة إسرائيل في الحملة على مصر. ورغم أن الحملة فشلت في أبعادها الاستراتيجية، إلا أن فرنسا أوفت بوعدها، وبنت مفاعل ديمونة الإسرائيلي، ما سهل على إسرائيل امتلاك أسلحة نووية.

وفي 1967، وبعد احتلال ما تبقى من أرض فلسطين إضافة إلى أراض عربية أخرى، قاد بيريز حملة لاستيطان الأراضي المحتلة، وقد توسعت إسرائيل في بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، ما قوض أية فرصة لسلام بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي. ولم يكن بيريز يوماً يروج لتفكيك المستوطنات. ولا غرو أن توسع المستوطنات في ظل تحالف أحزاب العمل، الذي ينتمي إليه بيريز تفوق عن بناء المستوطنات في ظل تكتل الليكود اليميني.

ويشير الكاتب تيد سنايدر، في معرض استهجانه لاحتفاء الصحافة العالمية ببيريز كونه أيقونة السلام، إلى التعاون غير الخفي بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري الآبارتايد في جنوب أفريقيا، الذي حظي برعاية مباشرة من بيريز. وقد وقع بيريز مع حكومة الفصل العنصري في بريتوريا اتفاقية أمنية وعسكرية، تم بموجبها نقل التقنية النووية إلى جنوب أفريقيا. وقد اختبرتا الدولتان قنبلة نووية في آخر السبعينيات من القرن المنصرم. وقد علق سنايدر بأنه إذا كان بيريز أبو القنبلة النووية الإسرائيلية، فإنه بلا شك القابلة التي ولدت القنبلة النووية لنظام جنوب أفريقيا العنصري.

ومن الاستثناءات التي تحدثت بصراحة عن بيريز، في خضم المدائح التي كيلت له، مقالة للكاتب الصحافي الشهير روبرت فيسك في «الاندبندت»، فقد عنون فيسك مقالته بـ«شمعون بيريز ليس صانع سلام». ويتحدث فيسك في مقالته عن ذكرياته عن مجزرة قانا في جنوب لبنان. ويتحدث فيسك أنه في العام 1996، حين كان بيريز رئيساً لوزراء إسرائيل وكان حينها يواجه انتخابات ضد خصمه بنيامين نتانياهو، قد أمر القوات الإسرائيلية بقصف مدفعي على معسكر تابع للأمم المتحدة، الذي اتخذه بعض المدنيين، معظمهم من الأطفال والشيوخ، ملجأ. وقد أدى هذه الهجوم إلى قتل وجرح نحو مئتين وخمسين شخصاً. وقد تحدث الصحافي المخضرم بكثير من الأسى عن مناظر الدم والأشلاء عند قدومه لرؤية الفاجعة في معسكر قانا.

ولكن ألا يمكن للأشخاص أن يتغيروا؟ بلى، وقد أشار بعض الكتاب أن بيريز قد تحول من صقر إلى حمامة سلام، على الأقل نسبياً في السياق السياسي الإسرائيلي. من الممكن أن تحول كهذا حصل، وأن بيريز جنح إلى السلم، ولعل رعايته لاتفاقية أوسلو خير دليل على ذلك. ومن المعروف أن الإنسان إذا شاخ ضعفت معه قناعاته الأولى، ولعل شيئاً من هذا حصل لبيريز، ولكن بيريز، المخطط المراوغ كما أسماه زميله اللدود إسحاق رابين، كانت له أبعاد جيواستراتيجية واقتصادية لتحوله ومساندته لاتفاق أوسلو.

أما البعد الجيواستراتيجي فيتركز إلى تغير النظرة الإسرائيلية إلى إدراك أن الخطر الداهم يتمثل في إيران وليس العرب، بعد التشرذم نتيجة للغزو العراقي للكويت والهزيمة النكراء، التي مني بها صدام حسين. وضعف الموقف الفلسطيني تبعاً للحرب لسبب مساندة القيادة الفلسطينية لصدام، فلعل بيريز رأى فرصة تاريخية لفرض حل سلمي مفصل على مصلحة إسرائيل، بسبب اهتراء وتسيب الموقف السياسي العربي وتردي الوضع الفلسطيني كونه نتيجة مباشرة لحرب الخليج الثانية. وقد آثر بيريز التحالف مع الدول العربية لمواجهة إيران النووية في المستقبل،

ولكن هناك سبب جيواقتصادي يتمثل في تحول إسرائيل من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد التقنية العالية في بداية التسعينيات، أو ما يسمى اليوم اقتصاد المعرفة. ويتطلب هكذا اقتصاد تبادل تكنولوجي وعلمي مع دول كثيرة، كما يتطلب أسواقاً جديدة للمنتجات ذات التقنية العالية. وينصب اهتمامات بيريز بالتقنية العالية أو اقتصاد المعرفة لتحويل إسرائيل إلى أكبر منتج لهذه التقنية العليا.

وقد دعا بيريز إلى شرق أوسط جديد يخدم الأهداف الجيواستراتيجية والاقتصادية الإسرائيلية عبر سلام، يحول الاستعمار التقليدي إلى استعمار من نوع جديد كما قال شلومو بن عامي، وزير خارجية إسرائيل السابق في تعليقه على اتفاقية أوسلو.

وعليه فإن بيريز لم يكن صانع سلام يوماً، بل صانع مأساة الفلسطينيين، وأصبح صانع ملهاة السلام مع الفلسطينيين في تجليه الأخير.

Email