من محبي الطبيعة إلى أصحاب التفكير النقدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الثمانينات من القرن الماضي عصراً ذهبياً للصحافة الكويتية. كنت أقرأ الصحف الكويتية من بين صحف أخرى بانتظام. كان من بين ما يلفت نظري هو المقابلات التي كانت تنشرها بعض هذه الصحف مع فتيات ونساء من العاملات في مهن ومواقع شتى وغالباً الموظفات.

لفت نظري أن المقابلات وعلى مدى سنوات كانت متشابهة دوماً.

الأسئلة والأجوبة هي نفسها مع قليل من التغيير، فكل الفتيات والنساء يعشقن الطبيعة ويهوين السفر وخدمة الناس والحكمة التي يؤمن بها هي نفسها لا تتغير «اتق شر من أحسنت إليه»، ويعشقن صوت فيروز من الصباح وأمنيتهن الوحيدة هي أن يعم السلام في العالم.

أحد الزملاء كان مراسلاً من البحرين لواحدة من هذه الصحف. وبالإضافة إلى التغطيات المعتادة، كان يتعين عليه أن يرسل للصحيفة من هذه المقابلات باستمرار. شرح لي سر التشابه ذات يوم: المقابلة بأسئلتها وأجوبتها جاهزة وما على الفتاة أو السيدة المعنية إلا قراءتها وإدخال أي تعديل إن أرادت والجلوس للتصوير أو تزويدنا بصورة من عندها. وزاد بأن أطلعني على نموذج هذه الأسئلة والأجوبة وهو يبتسم.

أما الصديق الراحل خالد البسام فله قصة طريفة عندما كان يعمل مراسلاً لصحيفة الخليج في البحرين مطلع الثمانينيات (من القرن الماضي طبعاً وليست ثمانينيات القرن التاسع عشر) عندما ذهب بمعية زميل آخر لمقابلة فنان مسرحي عربي كان يزور البحرين. حكى خالد، رحمه الله، وهو يغالب ضحكاته: ونحن في منتصف الطريق تذكرت أسئلة أعددتها بعد بحث طويل لهذا اللقاء، فصرخت. لقد نسيت الأسئلة في المكتب، فما كان من الزميل الآخر إلا أن هتف: «ولا يهمك عندي أسئلة».

وأخرج من صندوق الحاجيات في السيارة ورقة زرقاء مجعلكة وناولني إياها وهو يقول: «أستخدمها دائماً لجميع المقابلات».

قهقه خالد وهو يواصل حكايته بمشهد تمثيلي يتصنع فيه شيئاً من الجدية قائلاً إن الأسئلة التي يستخدمها الزميل هي من ذلك النوع الذي تقرأه كل يوم: «ما رأيك في أزمة النص؟ ما رأيك في أزمة الخشبة؟ ما رأيك في أزمة الوجوه النسائية؟ هل لك أن تسلط الضوء على أزمة المسرح العربي؟ ما رأيك في أزمة النقد؟».

هذه قصص مسلية وطريفة تدفعنا للضحك، لكن ما أن حلت التسعينيات إلا وأصبحت المشكلة الحقيقية شاخصة بقوة. فعندما نشرنا إعلاناً نطلب فيه صحافيين، انهالت علينا المئات من الطلبات بالبريد. وعندما تفحصنا الأوراق، وجدنا كل شيء، من الشهادة الجامعية إلى الدورات ومهارات الحاسوب وشهادات أخرى من كل نوع. لكن في المقابلات الشخصية تصدم بحقيقة أن غالب المتقدمين يبحثون عن وظيفة فقط. بعض المتحمسين منهم يعتقد أن الكتابة بأسلوب سليم هو المطلوب لكي تكون صحافياً.

يزداد الأمر فداحة عندما تطلب محررين لقسم الشؤون العربية والدولية فجميع المتقدمين لا يتقنون اللغة الإنجليزية إلا في حدود المحادثة العادية وليس لقراءة الأخبار وفهمها وترجمتها مثلاً.

وجئنا إلى الألفية الثالثة، ووجدنا المتقدمين يغالون ويبالغون في تقدير أنفسهم. غالبهم من ذلك النوع من خريجي الجامعات الشبان الذين يبهرك حديثهم عن «التفكير خارج الصندوق – ثنك أوت أوف ذا بوكس» و«التفكير النقدي- كريتكل ثنكينغ»، لكن عندما تمتحن قدراتهم في الحدود الدنيا يعجزون عن حل مشكلة بسيطة أو يتهربون من عمل فيه قليل من التعب أو المشقة. لقد سألت أحدهم ذات يوم ما إذا كان قد جرب أن يعد تقريراً من الأرشيف فأجابني: أنا خريج جامعة (...) في أميركا.

أجبته: يا ولدي أنا لم أسألك عن شهادتك، بل عما إذا كنت قد اشتغلت من قبل فيما أطلبه منك الآن. تبع ذلك نقاش خلصنا منه إلى أن صاحبنا (وهو من جماعة ثنك اوت اوف ذا بوكس) لا يريد القيام بذلك لأن ذلك نوع متدنٍ من الأعمال بالنسبة له. زميل آخر له (من جماعة الكريتكل ثنكينغ) ومن خريجي إحدى الجامعات الأميركية كان يعمل في قسم الشؤون المحلية جاءني في يوم من تسعينيات القرن الماضي مبدياً رغبته في العمل في قسم الشؤون العربية والدولية فأعطيته تقريراً إخبارياً من 400 كلمة بالإنجليزية وطلبت منه ترجمته وإحضاره لي، لكنني لم أشاهده حتى اليوم.

هكذا تتضح المشكلة من ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم: «تدني المهارات». تقادم السنوات أوضح لنا أن تدني المهارات ليس قاصراً على مهنة الصحافة، بل إن هناك تدنياً في المهارات في المهن والخدمات وفي ميادين شتى بشكل عام رغم التقدم العلمي. في الحقيقة فإن هناك علاقة طردية بين التقدم العلمي والمهارات بحيث إنه كلما زاد التقدم التقني كلما تدنت المهارات أكثر. لدي ملاحظات قصص وأمثلة كثيرة لا تحصى، لكنني أترك الأمر لكم للإجابة عن هذا السؤال: هل تغير الأمر كثيراً الآن منذ تلك السنوات وحتى اليوم؟

Email