مشاهد مضيئة من ذكريات خالدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعيش هذه الأيام أجواء حرب أكتوبر في ذكراها الثالثة والأربعين، واحدة من أعظم اللحظات، وأكثرها خلوداً في تاريخ أمتنا العربية في عصرها الحديث على الأقل، وقتها تجلت الوحدة العربية وقوة الإرادة ووضوح الهدف في أزهى صورها، كانت بالفعل أياماً خالدة غيرت وجه الشرق الأوسط والعالم، بعدما عزفت الشعوب والحكومات العربية سيمفونية تعاون وتكامل غير مسبوقة، جعلت للعرب مكاناً مضيئاً على خريطة العالم.

هذه الكلمات ليست من قبيل محاولة لاجترار الأحزان أو الأفراح، ولكنها كلمات وثيقة الصلة بالأوضاع العربية الجارية، وقد تلقي إضاءات على إجابات مفقودة لتساؤلات شائكة حول المواقف المتفجرة في أمتنا العربية، منذرة بمراحل أخرى من الانهيار والمواجهات، التي لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائجها النهائية، فغياب التنسيق والعمل العربي المشترك لا شك في أنه على رأس أسباب التوحش الإسرائيلي، والفشل في مواجهته.

ولكن تجدر الإشارة في البداية إلى إلقاء ولو بصيص من الضوء على المشهد الوحدوي خلال أسابيع الحرب العربية/الإسرائيلية في أكتوبر 1973 وما سبقها، وأهم ما ميزها وجود دعم عربي حقيقي عسكري ومادي وبشري ومالي واقتصادي، وبالطبع سياسي ومعنوي لدولتي القتال الأساسيتين مصر وسوريا، كانت أيضاً واحدة من المرات القليلة، التي لم تكتف فيها الدول العربية ببيانات التأييد أو الشجب والإدانة كما هو معهود في كثير من قضايانا، فالدول العربية قدمت الكثير، والكثير جداً ليس خلال الحرب فقط، ولكن على مدار السنوات التي مهدت لبناء جيوش دول المواجهة، تمهيداً لتلك الحرب في أعقاب العدوان الإسرائيلي في حرب يونيو 1967، وقد بدأت أولى الخطوات العملية في تحقيق التضامن العربي خلال مؤتمر الخرطوم، الذي عقد عقب «النكسة»، حيث تعهدت الدول العربية بتخصيص الأموال لدعم دول المواجهة في حربها ضد إسرائيل، في ظل اقتطاع مصر نسبة كبيرة من دخلها القومي للإنفاق على ضرورات الدفاع تصل إلى 21% في ذلك الوقت، وبحلول عام 1971 كانت هناك قناعة بضرورة إشراك الدول العربية بشكل فعلي في حرب مصر وسوريا ضد العدو الإسرائيلي، وعدم الاكتفاء بالمساعدات المالية، لأسباب عدة أهمها الحفاظ على كرامة دول المواجهة من مرارة السؤال، إضافة إلى عدم توفر الوقت اللازم والكافي لتحويل تلك الأموال إلى أسلحة ومعدات.

وتعددت أوجه التعاون المصري/ العراقي في تلك الفترة، ولعبت الجزائر دوراً حيوياً في قائمة الدول العربية الداعمة لحرب أكتوبر بقواتها العسكرية، فعندما طلبت مصر الدعم العسكري من الرئيس الجزائري هواري بومدين، رد قائلاً: الجزائر ستقوم بإرسال كل ما لديها لكي يقاتل الجزائريون جنباً إلى جنب مع إخوانهم المصريين، كما دفع الرئيس «بومدين» في نوفمبر 1973 إلى روسيا مبلغ 200 مليون دولار ثمناً لأي أسلحة أو ذخائر تحتاج إليها مصر وسوريا.

ووضعت ليبيا القوات المسلحة الليبية تحت تصرف مصر، وكذلك أمر الرئيس السوداني جعفر النميري آنذاك فور علمه باندلاع الحرب على الجبهتين المصرية والسورية مع إسرائيل بإرسال لواء مشاة من الجنود السودانيين إلى مصر، ويكفي أن نعرف أن الرئيس السوداني الحالي عمر البشير كان من ضمن القوات المقاتلة على الجبهة المصرية.

وشاركت الأردن بقوات عسكرية في الحرب، حيث دفعت بلواءين مدرعين إلى الجبهة السورية، لينضموا إلى القوات هناك. وكذلك قامت قوات المقاومة الفلسطينية بأدوار مؤثرة جداً على الجبهة المصرية وخاصة وحدات عين جالوت. وأرسل المغرب قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب لواء دبابات إلى الجبهة السورية، ثم أرسل عقب اندلاع الحرب إلى الجبهة المصرية لواء مشاة، والشيء ذاته فعلته الدولة التونسية. ويستحق الموقف الخليجي أن تفرد له صفحات كاملة، لما له من تأثير عميق في سير المعارك والتجهيز للحرب، وقد دفعت السعودية بلواء مشاة للمشاركة في الحرب، كما قاد العاهل السعودي الملك فيصل حملة عربية لحظر تصدير البترول إلى كل الدول المساندة لإسرائيل، وهي الحملة التي زلزلت العالم، عندما انضمت لها الدول الخليجية والجزائر وغيرت بالفعل من مواقف الدول المؤيدة لإسرائيل.

وبينما شاركت الكويت بقوات نظامية مقاتلة على الجبهة المصرية، أعلن رئيس الإمارات الراحل المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن خزائن بلاده مفتوحة أمام كل ما تحتاج إليه الجيوش العربية المقاتلة، مطلقاً جملته الشهيرة «البترول العربي ليس أغلى من الدم العربي»، ولم يبخل الرجل والدول الخليجية كافة بالمال الوفير لدعم دول المواجهة، حقاً، لقد غيرت مواقف دول الخليج ودعمها الكبير من مجريات الأمور، وكان لها دور كبير إلى جانب المواقف الوحدوية للدول العربية في صنع روح عربية جديدة.

ويبقى التأكيد على أن تلك السيمفونية الوحدوية، التي عزفتها الدول العربية، خلال حرب أكتوبر هي الوصفة الأفضل عند الحديث عن أمن قومي عربي، ولعل تلك المواقف هي أفضل رد على الباحثين عن خريطة طريق عربية للخروج من المأزق الكبير، الذي تعيشه أمتنا العربية حالياً، والمخاطر المحيطة بها من كل جانب، وتبقى روح أكتوبر هي البدر المنير، الذي تفتقده أمتنا العربية في لياليها الظلماء.

Email