استشراف المستقبل دروس مستلهمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المهم أن تعتز الشعوب بماضيها وتراثها وثقافتها، وتنظر بعين التأمل لما قد حدث، لأخذ العبرة والعظة والبناء على ما قد فات والتأسيس عليه، ليكون البنيان أكثر شموخاً، والأساس أكثر رسوخاً، فمن لم يتعلم من الماضي، لا يمكن أن يؤهل للمستقبل، وسنن الله ثابتة، حتي يتمايز من يعي ومن لا يعي، كما أنه من الأهمية بمكان كذلك، أن تسعد الشعوب بما حققته من إنجازات تبدل بها إلى حالة أفضل، وأن يعلم أبناؤها ماذا كنا وكيف أصبحنا، حتى يتم الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، كما أن النتائج الملموسة تشجع على تحقيق المزيد، غير أن من الخطورة بمكان، الاستغراق في الماضي والعيش المطلق على أمجاده واستحضاره، رغم أهميته، ولكن لا ينبغي أن ينسينا ذلك الحاضر والمستقبل، وهذا ما تقع فيه بعض من الشعوب العربية، ومن ثم يصبح تعاملها مع المستجدات بمنطق ردة الفعل، وليس الفعل ذاته، وبذلك، تكون في موقع المفعول به دائماً، من هنا، كانت نظرة القيادة، القادرة على قراءة واستيعاب حركة التاريخ وسنن الكون، أن الولوج إلى المستقبل، والنظرة الاستشرافية، هي أول أبواب الحفاظ على مكتسبات الحاضر، وضماناً لحياة كريمة للأجيال القادمة.

واستشراف المستقبل ليس درباً من الغيب، لكنه قائم على معطيات الحاضر، ووضع سيناريوهات متعددة للمستقبل، الغرض منها التقليل من درجة عدم اليقين، في عصر يتحرك بوتيرة متسارعة، غير أن العامل الجوهري، هو الاهتمام بالمستقبل، فضلاً عن القدرة على قراءة الفرص المتاحة، أضف إليها إرادة اتخاذ القرار والدخول فيها، تلك هي المسألة.

لأن هناك من يفضل دائماً السباحة في المناطق الدافئة، بعيداً عن كل محاولة فيها درجة من التوقع المحسوب، هذا الصنف من الناس، يظل في مكانه لا يبرحه، يشاهد ويتأمل من حوله، قانع أو عاجز عن الفعل، غير أن القيادة الحقيقية، هي التي تواجه تلك التحديات بأدوات عصرها، من تخطيط قائم على العلم، تعرف أين موضع قدمها وتبني، محملة بخبرات وتحديات سنين، استطاعت أن تتغلب فيها دائماً بإرادة الفعل المستمر والعزيمة التي لا تعرف التردد، تلك القيادة، هي الجديرة أن تضع لشعبها مكاناً ومكانة بين الأمم، وهذا هو الذي دأبت قيادتنا الرشيدة على بثه في نفوس أبناء الوطن، بدءاً من رحلة التميز والتفكير خارج الصندوق والمعتاد والمألوف، وليس انتهاء بالابتكار وشحذ الفكر واستنفار الطاقات، وبخاصة أن قوة الشعوب في عصرنا تقاس أولاً بقدرة أبنائها على غزارة الإنتاج وقيمة الفكر.

ومن خلال قراءة متفحصة لما أكده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، من أن هدف الاستشراف المبكر للفرص والتحديات في كافة القطاعات الحيوية في الدولة، وتحليلها، ووضع الخطط الاستباقية بعيدة المدى لها على كافة المستويات، هو تحقيق إنجازات نوعية لخدمة مصالح الدولة.

في تقديري أن استشراف المستقبل، هو من أهم أشكال الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، وحقها في أن تعيش في بيئة مواتية قادرة بعيداً عن النظرة الآنية، كما أن تلك الاستراتيجية ستصبح بمثابة قاطرة التنمية التي تسير وفق رؤى محددة، سواء على المستوى القريب، من خلال رؤية الإمارات 2020، أو على المستوى المتوسط، أو على المستوى البعيد خلال خمسة عشر عاماً، وهو الأمر الذي يساعد في تقييم وتقويم حركة العمل حسب المتغيرات العالمية من حين إلى آخر، ليتم من خلاله تقييم الفرص والتحديات.

كما أن الإشارة إلى أن الجهات الحكومية ستقوم بإشراك المجتمع في بناء المستقبل، من خلال تنظيمها لأنواع مختلفة من المختبرات والمبادرات، ما سيترك أثراً إيجابياً كبيراً في القطاعين الحكومي والخاص والمجتمع، كما أن ذلك سيمثل أهم أسباب النجاح لتلك الاستراتيجية، باعتبار أنها وضعت من أجل المجتمع، وهو المنفذ لتوجهاتها، القائم على نجاحها، وهو في الأخير المنتفع من نتائجها وثمارها، فهي منه وبه وإليه، وبخاصة أنها تشمل مختلف القطاعات الحياتية بها، سواء التعليمية أو الصناعية أو التجارية أو الصحية أو غيرها.

ومن هنا، ينبغي على كافة الهيئات والمؤسسات، وبخاصة الأهلية والخاصة، ألا تكون بعيدة عن تلك الرؤية، كل في مجاله، وعلى سبيل المثال، في مجال التعليم العالي، ينبغي النظر بعين التدقيق والفحص إلى حاجة سوق العمل خلال المرحلة المقبلة، وطبيعة التحديات التي تفرض طرح تخصصات بعينها يجب الغوص فيها، ولا شك أن علوم الفضاء، والتي باتت الوجهة الغالبة على أبناء وطننا، فضلاً عن الاتجاه نحو تغيير جذري في طرق التدريس، يتغير فيه طبيعة دور الطالب والأستاذ، والاهتمام بالبحث العلمي، باعتباره ركيزة أساسية للنهضة، وأن تكون التحديات المحلية أولوية على قائمة الدراسات والتخصصات التي يتم طرحها، مع انفتاح على العالم، وفي الوقت ذاته، الحفاظ على الهوية المميزة لنا.

Email