إعادة إنتاج ميراث الهجاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعلمت من الأصدقاء الفلسطينيين في سنوات الجامعة ارتداء الكوفية الفلسطينية الشهيرة حول العنق بشكل انيق وخصوصاً في الشتاء. حملت معي هذه العادة لاحقاً الى البحرين كلما حل الشتاء. نعم شكلي يبدو غريباً بعض الشيء حتى وسط اولئك الذين يرتدون البنطال، وكنت ابتسم اذا ما صادقني تعليق يقول انني اشبه الفلسطينيين او ان امي من نابلس مثلاً، لكن اكثر ما كان يثير حنقي في ثمانينيات القرن الماضي هي تعليقات العديد ممن اعرفهم. كانوا يقولون بلهجة بحرينية ساخرة ومتأففة: «للحين انت ويا ربعك الفلسطينيين». اي أما زلت مع اصدقائك الفلسطينيين؟!

تبدو العبارة محض سخرية، لكنها في معناها الضمني الأهم: «أما زلت على تلك الموضة القديمة؟». أما مقالاتي المتعلقة بفلسطين او الصراع العربي الصهيوني، والمقابلات التي كنت انشرها مع الراحل ابو عمار عندما يمر بالبحرين في زيارة وغيره من القادة الفلسطينيين، فقد كانت مبعث سخرية وتأفف نخبة المثقفين الذين كانوا يتحدثون معي وكأنني غير قادر على مسايرة اتجاهات السياسة الدولية او الإقليمية. أي التعبير المهذب والملطف جداً للقول: «انك متخلف.. وان القضية الفلسطينية موضة قديمة».

المفارقة هي ان جل هؤلاء تحولوا بعد العام 2001 الى ناشطين لا يكفون عن ارتداء الكوفيات الفلسطينية في المهرجانات الخطابية والتجمعات والمسيرات كلما شنت اسرائيل حرباً على الفلسطينيين.

في سنوات الثمانينيات تلك، كنت اتحدث مع مسؤول فلسطيني في منظمة التحرير الفلسطينية في موضوعات شتى. لم تكن مقابلة صحافية، لكن حديث ودي ممتد. شرح لي كيف كان الفلسطينيون ينفقون اموال الدعم العربي. بناء مدارس، جامعات، توسعة جامعات اخرى، بناء مستشفيات وعيادات، دعم المهنيين، الإنفاق على عائلات الشهداء، دفع رواتب ولو صغيرة للخريجين من الجامعات لكي لا يهاجروا وتفرغ الأرض من اهلها، دعم البلديات ومؤسسات مجتمعية عديدة وغيرها.

المضي اكثر في مناقشة تفاصيل امر كهذا يقود الى امر واحد: كيف ترعى شعباً بأكمله بالمعنى الأشمل للكلمة وتدعمه في مواجهة احتلال يسعى الى تفريغ الأرض من اهلها. على هذا، فإن صور الدعم تتخذ اشكالاً شتى وهي ليست قاصرة على تقديم أموال فقط. فبالنسبة لبعض الدول الأوروبية، كانت دول مثل ايطاليا واسبانيا واليونان والبرتغال والسويد تدعم الفلسطينيين لكن بأشكال أخرى مثل شراء المنتجات الزراعية الفلسطينية وخصوصاً البرتقال والزيتون والحمضيات عموماً. تقوم بعضها بإنشاء مشروعات في الأراضي المحتلة مثل المصانع والمشاغل الصغيرة وغيرها ضمن اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية. مشروعات تعليمية ومهنية ومشروعات توأمة بين مدن فلسطينية ومدن في تلك الدول.

هل لنا ان نتصور كيف كان يتم التعامل بين هذه الدول وبين منظمة التحرير الفلسطينية في ظل حالة الحرب مع اسرائيل؟ في ظل التضييق القائم على مصادر دعم الفلسطينيين وحرمانهم من كل اشكال الدعم؟ هل يتصور أحد ان تلك الدول كانت تسلم منظمة التحرير اموال الدعم وتقوم هذه بإرسال شيكات الى الأرض المحتلة عبر مصرف اسرائيل المركزي مثلاً او عبر بنك «لؤمي» مكتوب فيها: «نرجو صرف مبلغ 17 مليون دولار للسادة مزارعي قطاع غزة نظير شحنات البرتقال التي اشترتها ايطاليا»؟ او شيكات اخرى مخصصة لدعم عائلات الشهداء مكتوب فيها: «يرجى صرف 10 ملايين دولار مخصصات عائلات الشهداء في الضفة الغربية وغزة»؟ كانت الثمانينيات هي ذروة الدعم العربي الذي كانت تقدمه دول الخليج وذروة التعاون بين المنظمة والدول الأوروبية المساندة لحق الفلسطينيين في تقرير المصير. لكن ما لم ينتبه اليه كثيرون هو أن «الموضة الرائجة» في تلك السنوات ايضاً في أوساط مثقفي العرب كانت هي التشكيك في ذمة مسؤولي منظمة التحرير والتساؤل عن جدوى التبرع لهم وجدوى الدعم العربي لهم.

سأعيد التذكير هنا بحقيقتين من حقائق الحياة اليومية في الأرض المحتلة. في الانتفاضة الأولى (1987-1990) شنت اسرائيل حرباً اقتصاديةً على الفلسطينيين عبر رفع الضرائب على الحرفيين الفلسطينيين من اصحاب المصانع والورش بشكل ممنهج مما ادى الى اقفال العديد منها.

ان افقار الشعب الفلسطيني احد اهم اسلحة اسرائيل لدفع الفلسطينيين للهجرة وافراغ الأرض. هل يملك أحد اي تصور لكيفية دعم هؤلاء وقطاعات اخرى من الشعب الفلسطيني؟ اي تصور للكيفية التي تجعل النساء الفلسطينيات غير مجبرات على العمل في مزارع المستوطنين اليهود بأجور بخسة؟ او تجعل العمال الفلسطينيين غير مجبرين على التوجه للعمل في المستوطنات الإسرائيلية ولا الوقوف في صفوف طويلة امام المعابر للدخول الى فلسطين المحتلة عام 1948 للعمل؟ لم اقرأ شيئاً يجيب عن اسئلة مثل هذا على مدى اربعين عاماً وحتى اليوم.

بودي ان اسمع من مثقف عربي او صحافي عربي من عشاق التنظير في ستار بكس والناشطين الذين يرتدون الكوفيات الفلسطينية اليوم، اجوبة لاسئلة كتلك بدلاً من اعادة انتاج تراث هجاء وفحولة لفظية يعاد استنساخ مفرداته مرحلة اثر مرحلة وجيلاً اثر جيل.

Email