عن الإسلام في فرنسا

إذا كان من واجبنا أن نعترف بأن الصورة التي يقدم بها المسلمون أنفسهم في أوروبا هذه الأيام، صورة سلبية، تتمثل في إيثارهم للعزلة وعدم الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وتشبثهم بما حملوه معهم من عادات وتقاليد موروثة من عصور سابقة، ينسبونها للإسلام، ويميزون بها أنفسهم، ويرفضون على أساسها حضارة العصر، ويتخذون منها مواقف تستفز الأوروبيين وتوقظ فيهم النزعات العنصرية الكريهة، وتفسح المجال للعنف المتبادل، إذا كان من واجبنا أن نعترف بأن هذه الصورة السلبية هي الصورة الرائجة للإسلام والمسلمين في أوروبا هذه الأيام، فمن الواجب أيضاً ألا نقف عندها، وأن نتحدث عن صورة إيجابية للإسلام، تميز بينه وبين من يسيئون فهمه من المسلمين وغير المسلمين في بلادنا وفي أوروبا، وتكشف عن جوهره الإنساني، واعترافه بالآخرين، واستعداده الدائم للحوار معهم، والاستفادة من تجاربهم، والاستجابة لما تفرضه التطورات الكبرى التي عرفتها المجتمعات البشرية في القرون الأخيرة، واحترامه لحق الجميع في الاجتهاد والتعدد والاختلاف.

الحقيقة التي يجب أن نذكر بها، أن الإسلام في أوروبا، ليس بدعة جديدة، وإنما هو تراث عريق عرفناه وعرفه الأوروبيون في حضارة الأندلس التي عاشت ثمانية قرون، اتصل فيها الشرق بالغرب، والدين بالفلسفة، والإسلام بالمسيحية واليهودية وبغيرهما من الديانات. وهذا ما عبر عنه ابن رشد في فلسفته التي صالح فيها بين العقل والنقل، أو بين الحكمة والشريعة، وفتح بها للأوروبيين في العصور الوسطى طريق النهضة.

أتذكر هنا آخر درس ألقاه المستعرب الفرنسي، الأستاذ جاك بيرك، وختم به عمله في كوليج دوفرانس، وعبر فيه عن روح الإسلام كما استخلصها من دارسته له. وقد وجد بيرك في هذا الدرس، أن إنسانية الإسلام تجسدت في التجربة الأندلسية التي اجتمعت فيها الديانات والثقافات والأجناس واللغات في صعيد واحد، كان نموذجاً فريداً للمدينة الفاضلة، التي يستطيع البشر أن يبنوها، إذا اعترفوا بأن الحقيقة هي غايتهم جميعاً، وبأنها نسبية، يأخذ منها كل واحد منهم بنصيب، ويسلك إليها الطريق الذي يختاره، وأن اختلافهم رحمة، وتعددهم غنى، إذا أحلوا الوفاق مجلس الشقاق.

الإسلام في أوروبا إذن ليس بدعة جديدة، كما قلت في هذا الحديث، وفي ما سبقه، وإنما هو أندلس يتعلم فيها المسلمون من الأوروبيين، كما تعلم الأوروبيون في الماضي من المسلمين، أو حلقة جديدة من حلقات الحوار الدائر منذ بداية التاريخ بين الحضارات الإنسانية. بعضهم يرى هذا الحوار صادماً عنيفاً بين عقائد مختلفة، لا يوجد بينها أساس مشترك، كما تزعم الجماعات والأحزاب الإنسانية كلها، ليست إذاً نضالاً مشتركاً لتحقيق الأمن والحرية والعدالة والمعرفة والرخاء، فكما نسعى منذ قرنين لتطبيع علاقتنا بالحضارة الغربية الحديثة، يسعى الغربيون الآن لتطبيع علاقتهم بالإسلام.

منذ بضعة عشر عاماً، كان الوجود الإسلامي في فرنسا قد فرض نفسه على الجميع. فالمسلمون في فرنسا يعدون بالملايين. ومنهم عدد كبير يحمل الجنسية الفرنسية. ومنهم عدد كبير لا يزال يبحث لنفسه عن مكان. ومن الطبيعي أن يواجه هؤلاء وهؤلاء أسئلة صعبة، ومشاكل مختلفة تتعلق بالإقامة والعمل والحاجة للاندماج في المجتمع الفرنسي، والخوف من الذوبان فيه، وفي هذا الوضع، يشعر المسلمون بالقلق، ويتعرضون للضغوط والإغراءات التي تأتيهم من الداخل والخارج، ويحتاجون لمؤسسة ترعاهم وتساعدهم في حل مشكلاتهم، وفي تنظيم علاقتهم بأنفسهم وعلاقاتهم ببلادهم الأصلية وعلاقتهم بفرنسا، وهذا ما تحقق في المجلس الفرنسي للمسلمين، الذي أنشأه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قبل ثلاثة عشر عاماً، عندما كان وزير للداخلية، لتنظيم علاقة المهاجرين المسلمين بفرنسا، على نحو يضمن لهم حقوقهم، ويحفظ لهم شخصياتهم، لكن في إطار من احترام المبادئ والقوانين الفرنسية المستمدة من العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويبدو أن طابع الإدارة الرسمي غلب على المجلس الفرنسي للمسلمين، فظهرت الحاجة لمؤسسة أخرى تهتم بالثقافة العربية الإسلامية، وهذا ما انتبه له الرئيس الفرنسي الحالي فرنسوا هولند، الذي كلف السياسي الاشتراكي بيير شوفنمان، بتشكيل مجلس آخر ينشط في هذا المجال، ويتألف من مثقفين ينتمون لأصول عربية وفرنسية، وقد قرأنا أخيراً خبراً منقولاً عن صحيفة جزائرية، جاء فيه أن وزيرة التربية في الحكومة الفرنسية – الحالية، نجاة بلقاسم، المغربية الأصل، نجحت في أن تجعل اللغة العربية مادة إجبارية في المقررات الدراسية بداية من هذا العام الدراسي الجديد، وقد علقت على هذا الخبر، الكاتبة الجزائرية حدة عزام، التي نظرت للعربية في فرنسا، نظرتها للفرنسية في الجزائر، فهما معاً تمثيل للحوار الذي لا يصح إذا كان من طرف واحد، وإنما يجب أن يشارك فيه الطرفان، وهذا لن يتحقق بقدر من التكافؤ، إلا إذا تأهلت له اللغة العربية بثقافة عقلانية، تمكنها من أن تأخذ من الفرنسية وتعطيها.

هذا التاريخ المشترك الحافل، أسهم في تشكيل وعى الفرنسيين بأنفسهم، حتى صار باستطاعة هؤلاء المؤرخين، أن يتحدثوا عن فرنسا العربية الشرقية، فهل نستطيع نحن بالمقابل، أن نعتبر الثقافة الفرنسية التي أسهمت في تشكيل وعينا بأنفسنا خلال القرنين الأخيرين، عنصراً من عناصر شخصيتنا الوطنية؟، نعم. وأظن أن طه حسين سبق لإعلان هذه الحقيقة، حين تحدث في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، عن ثقافة البحر المتوسط، ونسب ثقافة مصر للغرب، لا للشرق.

الأكثر مشاركة