أنقرة.. ومرحلة ما بعد «الانقلاب»

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان مفاجئاً أن تخرج المستشارة أنحيلا ميركل لتوجه نداءً إلى المواطنين ذوي الجذور التركية وللأتراك المقيمين على أراضي ألمانيا بأن يلتزموا الولاء للدولة الألمانية، مؤكدة في لهجة تجمع بين التحذير والتذكير بأن بلادها تحاول الإصغاء إلى مطالبهم وتفهمها، وأنها تقيم علاقات وثيقة أيضا مع جمعيات المهاجرين.

ولم يفت ميركل أن تحذر أنصار ومعارضي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من العنف في ألمانيا، مذكرة بأن حرية الرأي والتظاهر تسري في ألمانيا على كافة المقيمين فيها، لكن بالطبع يتعين على الجميع التعبير عن اختلافاتهم في الرأي بسلمية.

والواقع أن تحذيرات ميركل ـ وهي فريدة من نوعها - جاءت في أعقاب ما أشيع عن انتشار مجموعات تابعة لأردوغان داخل المجتمعات التركية في ألمانيا ـ وهي جالية ضخمة جدا ـ لجمع معلومات عن «المعارضين» وتوجهاتهم.

كان لافتاً أيضاً أن القوات التركية شنت عمليتها العسكرية الضخمة في شمال سوريا، بمدينة جرابلس تحديدا، بعد التقارب التركي الروسي في أعقاب لقاء سان بطرسبورج بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لإطلاق مرحلة جديدة للعلاقات بين البلدين، وبرغم إعلان أنقرة بداية أن الهدف من هذه العملية هو ضرب الإرهاب بمهاجمة تجمعات لداعش.

إلا أن الهدف الحقيقي والذي كشفت عنه أطراف متعددة من بينها واشنطن وأنقرة نفسها في وقت لاحق هو ضرب الكيانات الكردية واحتمالات تكتلها في المنطقة بعد الانتصارات الأخيرة التي حققتها وقد ترسم ملامح دولة أو كيان مستقل للأكراد.

والمهم في الأمر أن جانبا كبيرا من هذه الانتصارات تحقق بفضل المساعدات العسكرية الضخمة التي قدمتها الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية الكردية التي تمكنت من تحرير مدينة مينبج بالكامل من قبضة داعش، الأمر الذي قد يفسر تمرير موسكو لهذه العملية التركية!.

من الواضح وفي ضوء الظروف والضغوط الداخلية والخارجية العنيفة التي تمر بها تركيا وخاصة بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في الشهر قبل الماضي، أن أنقرة تخوض معارك عسكرية وأمنية وسياسية ضخمة على أكثر من جبهة تفرض عليها مقاربات ومعالجات من نوع خاص تجاه مجمل القضايا الشائكة التي زاد من مرارتها وقسوتها العمليات الإرهابية المتعددة التي حصدت أرواح المئات فضلاً عن الخسائر المادية الجسيمة نتيجة تردي العلاقات مع روسيا منذ أواخر العام الماضي وكذلك جراء المحاولة الانقلابية الفاشلة.

وليس خافيا أن تلك الضغوط كانت قد أدت إلى بروز إرهاصات التحول في السياسات التركية تجاه روسيا وإسرائيل وحتى سوريا ونظام بشار الأسد ذاته.

ويعني ذلك أن تركيا تسعى لتحقيق مصالحها بحل خلافاتها مع أطراف خارجية، خاصة أن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم قال في أول بيان له بعد تسلمه منصبه إن من أولوياته تقليل الأعداء وأن المشاكل لم تكن في مصلحة تركيا، فقد أضرت بمواطنيها وخلقت ظروفا اقتصادية صعبة، وأثرت بالسلب على الكثير من القطاعات الاقتصادية.

وبدون مبالغة، الدولة التركية تعيش في الأيام الجارية بعضا من أدق وأصعب مراحلها على الإطلاق على الصعيدين الداخلي والإقليمي، خلافا لما كان الحال عليه في العشرية الأولى من القرن الجاري عندما ظهرت تركيا المعاصرة على أسس سياسية مختلفة أرسى مبادئها أحمد داود أوغلو ـ رئيس الوزراء السابق ـ اعتمادا على القوى الناعمة التركية التي صنعت نموذجا استقطب إعجاب الكثيرين إلى حد أن استنساخه والسير على خطاه كان تطلعا من دول عديدة في المنطقة.

إلا أنه من الواضح أن هذه الأيام قد ولت إلى حد بعيد وباتت تركيا محاصرة بسلاسل من التفجيرات الإرهابية داخليا وموجات اللاجئين التي لا تنتهي وسط رفض شبه تام من جانب الشركاء الأوروبيين تقديم مساعدات حقيقية لمواجهة هذه المشكلة الإنسانية العويصة، ثم تداعيات المحاولة الانقلابية.

علاوة على ذلك تتفاقم المشاكل السياسية الكبرى التي يتعرض لها النظام التركي بفشله حتى الآن في الفوز بأي وعود قوية لدخول الاتحاد الأوروبي؛ تلك الأزمة النفسية المزمنة للأتراك.

وسقوط أنقرة فريسة للانتقادات الدولية بسبب سجل حقوق الإنسان والممارسات القمعية الأخيرة ضد الإعلام وفرض الوصاية الحكومية على صحف معارضة ووقف خدمات الإنترنت في لحظات حرجة وحملات الاعتقال الضخمة وتقارير احتجاز المعارضين في ظروف غير مواتية، أضف إلى ذلك التوتر الكبير والضبابية الشديدة في العلاقات مع واشنطن لعدم إدانتها الصريحة والمبكرة للمحاولة الانقلابية وكذلك لموقفها من تسليم المعارض عبد الله غولن.

ولكن على ما يبدو كان لزاما على أنقرة أن تتخلى عن خيارها السابق وبعض مواقفها المبدئية بأنه لا مكان للأسد في أي تسوية سياسية مقبلة، فاضطرت .

- وكما هو واضح في إطار التفاهمات الجديدة مع موسكو ـ أن تعلن على لسان رئيس وزرائها يلدريم أن للأسد دورا في المرحلة الانتقالية على الأقل، الأمر الذي يمثل تعارضا مع مواقف وتوجهات أطراف خليجية ترفض تماما أي دور للأسد، فكيف سيوفق أردوغان بين توجهاته الجديدة والمتقلبة ومغامراته البراجماتية وسياساته المتلونة المربكة للمشهد الشرق أوسطي بأكمله، وتطلعات دول المنطقة في ظل هذه الظروف المعقدة التي تمر فيها بلاده؟

 

Email