كيف نعلمهم؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تخيلوا معي هذا: في مطلع العام الدراسي يقوم المعلمون والمعلمات في المدارس الابتدائية ورياض الأطفال بعد إعداد وبحث جيد وعلى أسس علمية، باختيار شتلات أو بذور لنباتات معينة، زهور أو أشجار أخرى مفيدة للبيئة ويقومون مع الصغار من التلاميذ والتلميذات بغرسها في أماكن منتقاة بعناية في المدرسة، وتالياً يقوم المعلمون بتوجيه التلاميذ الصغار بسقاية هذه الشتلات ومراقبة نموها يومياً أو في أيام معينة من الأسبوع وتسجيل الملاحظات والإشراف على حمايتها ورعايتها من جميع النواحي. مع منتصف العام أو نهايته ستكون هذه الشتلات قد اشتد عودها وأصبحت نبتة تثمر زهوراً أو تتطاول عالياً.

الآن لنتساءل: أيها أفضل لتعليم الصغار منافع النباتات والزراعة وتنمية الإحساس وثقافة ومهارات وعادات الحفاظ على بيئة نظيفة لديهم، هل هذه الطريقة أفضل أم حملات دعائية وتوزيع ملصقات ودعوة الصغار لرسم موضوعات عن البيئة؟

سأجادل هنا بأن هذه الطريقة أفضل بكثير وبما لا يقاس من أسلوب الحملات وتوزيع الملصقات ودعوة الصغار للتعبير بالرسم. الفارق واضح بين أن تجعل الصغار يتعلمون بــ«التجربة العملية» والمشاهدة الملوسة والحسية وبين أن يتعلموا عن طريق «الحديث عن» الزراعة أو البيئة. وثمة فارق أهم هو أنه إذا كان التلميذ سيقضي ست سنوات في هذه المدرسة الابتدائية، فإن مراقبة شجرة غرسها مع زملائه ومعلميه، تنمو وتثمر ستعطينا إنساناً يعرف جيداً معنى «من زرع حصد» وكل الحكم والمواعظ التي يحتاج الناس لسنوات كي يفهموها عن الحياة والبيئة أيضاً.

هل وصلكم المغزى؟ الأمر يتعلق بأساليب التعليم في العالم العربي. إننا نتحدث كثيراً (في الحقيقة نحن نفترض) أن المدرسة يجب أن تعلم الصغار كل شيء وأن المدارس هي «تربية وتعليم» لكننا لا نشعر أن هذا يتم على نحو ما. دعونا نتساءل كي لا يبدو الكلام مرسلاً: كيف تقوم المدارس بتعليم الصغار مثلاً مزايا الكرم أو الوفاء بالوعد أو تجنيبهم عادة مذمومة مثل البخل؟ هل تكفي قراءة القصص عن حاتم الطائي، والسموأل وطرائف عن أشعب وبخله مثلما كانوا يعلموننا على أيامنا؟ لكن هل يكفي هذا لكي نحظى بأطفال يفهمون ويشبون وهم يدركون معنى الوفاء بالوعد أو الكرم وتجنب البخل؟

وما أن وصلنا إلى البخل سنتذكر الاقتصاد. ولأولئك الذين تهمهم الجدوى الاقتصادية دوماً، فإن الفارق في التكلفة بين ذينك الأسلوبين واضح جداً. فعدا أن التعليم وفق أسلوب إشراك الأطفال في التجربة أولاً بأول وباستمرار لا يتطلب أكثر من ثمن البذور أو الشتلات، وهذه يمكن الحصول عليها من جهات حكومية إما مجاناً وإما بأسعار مخفضة، فيما الأسلوب الثاني سيأتي بعقود مع شركات علاقة عامة في النهاية لتصميم مستلزمات حملة إعلامية وقتية بثيمات يحفظها الجميع لفرط تكرارها، لن تتعاقد المدارس مع الشركات منفردة بل ستوقع وزارة التربية والتعليم العقد ولكم أن تتصوروا الكلفة.

إن إحصاء الفوارق بين أساليب التعليم ستقودنا إلى أن نكون أمام مفارقة. ففي أيامنا، أي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت المدارس قليلة الإمكانيات وغالبها كان منازل لأسر ميسورة تبرعت بها لوزارة التربية على العكس من المدارس النموذجية ذات الإمكانيات المتقدمة التي انتشرت في العالم العربي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وتتطور حتى اليوم. المفارقة هي أننا في تلك المدارس فقيرة الإمكانيات تعلمنا بأيدينا أيضاً.

كان المعلمون يطلبون منا منذ الصف الأول الابتدائي أن نحضر معنا «أوراق صنفرة» للخشب ثم يعلموننا كيف نجلو بها أدراجنا الخشبية لتعود نظيفة مثلما صنعت أول مرة. كان الصغار يتبارون في تنظيف الأدراج ونيل إعجاب المدرسين. تطور الأمر لاحقاً إلى تعليمنا العناية بغرفة الفصل نفسها، فانطلقت إبداعات الصغار أيضاً لا في التنظيف بل حتى في التزيين والطلاء. قد يكون هذا درساً جيداً في النظافة وشيئاً من مهارة كشط الخشب، لكنني أعتقد أن الجمعيات العلمية في المدارس الابتدائية في ذلك الوقت كانت أسلوباً تربوياً وتعليمياً فعّالاً أكثر.

لقد كانت جمعيات الأنشطة منتشرة في المدارس في ذلك الوقت، جمعيات للعلوم والمسرح والخط والجغرافيا والتاريخ وغيرها. كان نشاط هذه الجمعيات غالباً في فترة ما بعد الظهر بعد الدوام المدرسي وكانت تشمل نشاطات جديرة بالاهتمام مثل تحنيط الطيور والحيات الصغيرة والنوارس وكان هذا يبدو مثل درس في التشريح لطلاب سنة أولى طب. كانت بعض النشاطات تذهب إلى مدى آخر بتعليم النجارة الناعمة والحفر على الخشب وصنع قطع وإكسسوارات للمكاتب التي كانت تزين غرف مديري المدارس أو توضع في خزانة زجاجية في مكان بارز في المدرسة.

لست أجادل هنا بأن العمل اليدوي هو غاية المنى، لكن اعتماد أساليب تجعل التعليم أكثر من «تجريد نظري» يتلقاه الطلاب من كتاب أو من شفاه معلم، أي تحويله إلى قيمة عملية ملموسة لهم. فالفارق كبير جداً بين تلقين الطلاب المعلومة وبين أن يتعلموها بأنفسهم أو يشارك في تعلمها بفعالية. أعرف جيداً أن ثمة من سيجادل بأن تطوير التعليم يحتاج حل مشكلات أخرى أكثر أهمية (بل إن البعض سيقول: أكثر أهمية من هذه التفاهات) مثل رواتب المعلمين وغيره. هذا صحيح تماماً لكن لا علاقة له بأساليب التعليم. وليعذرني كثيرون، فأنا انتمى لديناصورات في طريقها للانقراض لا تزال تؤمن أن العمل يجب أن يتم بأقصى حدود المهارة والجهد بغض النظر عن الراتب. وطالما تعلق الأمر بالتعليم فإن هذا يصبح شرطاً لا غنى عنه.

Email