لماذا تراجعت طهران؟

جاء إعلان موسكو عن استخدام القاذفات الروسية الثقيلة لقاعدة همدان الجوية الإيرانية لضرب أهداف داخل الأراضي السورية منتصف الشهر الجاري بمثابة مفاجأة كبرى لأطراف إقليمية ودولية.

وربما لأطراف أخرى داخل إيران ذاتها، إلا أن المفاجأة الحقيقية التي أعقبت هذا التطور هو مسارعة طهران إلى نفي منحها روسيا قاعدة جوية دائمة داخل إيران، وما بين التأكيد المفاجئ والتراجع السريع وقت قصير جداً، وقائمة طويلة من التساؤلات في محاولة للفهم، هل جاء التراجع الإيراني السريع نتيجة ارتباك داخلي أم حركة تصحيح استشعاراً للحرج؟

ولكن حتى لو توقفت القاذفات الروسية لبضع ساعات فقط في قاعدة همدان، ليتم تزويدها بالوقود على النحو الذي اقترحه بعض المسؤولين الإيرانيين، فسيعتبر مثل هذا التحول بداية لعلاقة استراتيجية أكثر سلاسة، وعلى قدر أكبر من الثقة بين البلدين.

كما أن تعزيز التعاون العسكري والإقليمي مع روسيا يتماشى مع سياسات طهران العدوانية، ومن المرجح أن يؤدي هذا الأمر إلى تدهور العلاقات بين الطرفين، وتقويض احتمالية تخفيف حدة التوترات بين القوتين الإقليميتين الرئيستين.

ومن حيث المبدأ تعتبر الخطوة الروسية- الإيرانية تطوراً تاريخياً كبيراً، فاستخدام روسيا قاعدة جوية إيرانية لشن عمليات عسكرية تستهدف أراضي أجنبية، هي واقعة تحدث للمرة الأولى على ما يبدو منذ الحرب العالمية الثانية، وبالقطع هي المرة الأولى التي تسمح فيها طهران بمثل هذا العمل منذ الثورة الإسلامية عام 1979.

وأغلب الظن أنها ليست خطوة عشوائية ناجمة عن قرار ارتجالي، ولكنها نتيجة دراسات وترتيبات وكذلك تجهيزات مكثفة، وقد يسهل فهمها في ضوء مجمل التطورات والتحركات التي ضربت المنطقة بقوة في الأشهر القليلة الماضية.

ويمثل العنصر الإيراني عاملاً أساسياً في هذه التطورات التي تجيء في أعقاب القمة العسكرية الثلاثية في طهران في يونيو الماضي بين روسيا وإيران وسوريا، التي يبدو أنها أثمرت هذه الخطوة من قاعدة همدان إلى الأراضي السورية.

ومن الطبيعي أن عملية عسكرية كهذه تتطلب مستلزمات كبرى من بينها تهيئة المطارات الإيرانية لمثل هذه المهمات والاستعدادات اللوجستية التي يفترض أنها بدأت منذ أسابيع عدة على أقل تقدير، بما في ذلك شحن وتخزين ذخائر القاذفات الاستراتيجية في همدان، إلى جانب إقامة مراكز إيواء وتنسيق للقوات الروسية على الأرض الإيرانية.

ومن ضمن التحركات المهمة أيضاً زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لتركيا قبل أسابيع قليلة، حيث كرر الرسالة التي أفصح عنها في لقائه السابق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف في سان بطرسبرج، مؤكداً أن «إيران وتركيا وروسيا هي الجهات الفاعلة المهمة في المنطقة.

وتحتاج إلى مناقشة خلافاتها، والعثور على حلول لها عن طريق الحوار». هذا التصريح يحمل مدلولات في منتهى الخطورة، وقد يسهم في الكشف عن كثير من خلفيات القرار الإيراني بفتح المطارات أمام القاذفات الروسية. وخطورة هذا التصريح كونه يشير للتحولات الاستراتيجية في المنطقة، ليس إزاء الأزمة السورية فحسب.

ولكن إزاء مجمل القضايا الشرق أوسطية الدقيقة لتدفع طهران بنفسها بهذا التصريح، وتلك التحركات في خانة المحور الإيراني- التركي- الروسي- السوري في مواجهة أطراف أخرى تتبنى توجهات سياسية مختلفة، وهي تحركات لها مخاطرها ومحاذيرها نتيجة أوضاع إقليمية وداخلية حساسة، يصعب معها اعتبار طهران حليفاً صريحاً في محور عالمي في هذه الظروف الخطرة.

وفي هذا الصدد جاءت محاولات علاء الدين بروجردي رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان التقليل من أهمية هذا التطور بتأكيده أن قاعدة همدان الجوية لن تصبح قاعدة روسية، ولن يتم نشر طائرات مقاتلة أجنبية في القاعدة الجوية «نوجة».

وأن النشاط الوحيد المسموح به يقتصر على تزويد الطائرات المقاتلة الروسية بالوقود في القاعدة، إلا أن بعض الخبراء الآخرين يؤيدون فكرة أن التكلفة السياسية لتعزيز التعاون العسكري لطهران مع روسيا لن يخدم أجندة الرئيس روحاني الأساسية المتمثلة بجعل إيران منفتحة اقتصادياً عبر تطبيق الاتفاق النووي مع الغرب بسلاسة وبناء الثقة مع المجتمع الدولي.

وعلى وجه التحديد لن يؤدي توطيد العلاقات العسكرية مع موسكو إلا إلى تعميق عدم الثقة في الغرب، وبدوره قد يؤدي هذا الأمر إلى زرع المزيد من الأشواك على الطريق التي تسلكها إيران نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي وزيادة حدة العزلة، التي تعاني منها البلاد.

وبرغم ذلك، لا شك في أن الغارات الروسية على مواقع داخل سوريا انطلاقاً من الأراضي الإيرانية تمثل تحولاً استراتيجياً في الصراع الدائر بالمنطقة الآن، لا يقل أهمية عن قرار موسكو في العام الماضي بالوقوف إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد بكل الوسائل الممكنة، وعلى رأسها الدعم العسكري الضخم والمباشر، فضلاً عن بروز العنصر الإيراني الداعم لدمشق في ثوب جديد وبعلانية شديدة تؤكد الدور الفاعل لطهران في الأزمة السورية.

والذي جعل المطارات والمنشآت الإيرانية مفتوحة أمام القوات الروسية على حد تأكيد مسؤولين إيرانيين، وربما كانت الإشارة واجبة إلى أن التدخل العسكري الروسي- الإيراني بهذا الحجم، وعلى هذا المستوى لا يستهدف فقط تعويم الأسد أوالحيلولة دون إسقاط نظامه، فهناك بالتأكيد أهداف استراتيجية عليا ترتبط بلعبة المصالح الإقليمية والنفوذ على الصعيد الدولي، والأيام المقبلة ستكشف المزيد من ذلك الواقع الجديد.

 

الأكثر مشاركة