اقتصادنا بعد النفط

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهد قطاع المال والأعمال في العقدين الماضيين تحوّلات جذرية أثّرت في توجهات الاقتصاد العالمي، جاءت هذه التحوّلات نتيجة عدة عوامل منها: العولمة، اتفاقيات التجارة الدولية، تنوع الإنتاج العالمي وظهور مؤسسات عملاقة عابرة للقارات، كما ظهرت اقتصادات ناشئة وتكتلات اقتصادية جديدة، وبرزت التكنولوجيا كمحرك أساسي للاقتصاد، وجاءت الأزمة الاقتصادية عام 2008م لتلقي بثقلها وظلالها على مجمل مكونات الاقتصاد العالمي والمحلي، ولاتزال تبعاتها سارية المفعول حتى حينه، وكانت هذه الأزمة إضافة إلى تقدم التكنولوجيا الرقمية سببين رئيسيين في بروز ظاهرة عمالية جديدة وهي «هجرة المواهب» من الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصادات الناشئة شرقاً.

واليوم يتواتر الحديث ويتواصل على المستوى المحلي والإقليمي عن اقتصاد ما بعد النفط، كما يتداول علماء وخبراء المال والأعمال رؤى مستقبلية عدة لما سيؤول إليه اقتصاد منطقتنا بعد أن تغادر آخر سفينة محملة بالنفط الخام شواطئ دول الخليج العربي الغنية بهذا المورد الاقتصادي الهام. ومن جانبهم يتساءل علماء الاجتماع وخبراء التنمية البشرية عن مصير ومسير العملية التنموية برمتها في منطقة تمتعت بالإيرادات المالية والمادية الهائلة للنفط سنين طويلة.

عند استجلاء المشهد الاقتصادي لدولة الإمارات العربية المتحدة نقف عند حقيقة جوهرية وهي أن إجمالي الناتج المحلي في العقد الثامن من القرن الماضي بلغ 555 مليار درهم شكل النفط منه بنسبة 80%، وفي المقابل فإنه في عام 2014 بلغ إجمالي الناتج المحلي تريليون و155 مليار درهم ساهمت القطاعات غير النفطية فيه بنسبة 69%، وهذا يعكس الجهود الكبيرة والأفكار الاقتصادية الخلاقة التي أنتجت مبادرات ناجحة وأدخلت مكونات جديدة في الاقتصاد الوطني وهو يتحول من اقتصاد يعتمد على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد تقوده الصناعات المتقدمة والبحث العلمي ومشاريع تجارية كبيرة تدعمها ممكنات التكنولوجيا التي لا تتوقف عن التجديد والتطوير، وهذا ما يستحق أن يعلمه يقيناً أولئك العلماء والخبراء.

لقد تبنى القادة المؤسسون رحمهم الله نهجاً اقتصادياً حصيفاً وضع لبناته بحكمة ودراية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان،طيب الله ثراه، من خلال الفهم العميق للتحولات الاقتصادية من حولنا حيث منح ذلك النهج اقتصادنا الوطني حصانة واجهت بقوة ومرونة تقلبات سوق النفط والأزمات المالية العالمية الأخرى، وقد تبنت الدولة منذ تأسيسها سياسة الانفتاح الاقتصادي والتجاري تحميه شرائع ونظم تعزز حوكمة السوق، ودعمت اقتصادها بنظام مصرفي قوي يقدم تسهيلات مالية مشجعة.

وعملت الدولة على تطوير بنية تحتية متقدمة وخدمات لوجستية مرنة في كافة القطاعات إضافة إلى إنشاء 30 منطقة حرة في مختلف إمارات الدولة تقدم فرص التملك الحر للمشروعات التجارية وتيسر عملية تحويل الأموال والأرباح كما استحدثت بشكل جاد نهجاً خلاقاً للمشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة استطاعت المنافسة داخل السوق الإماراتي وخارجه وأسست صناديق سيادية ذات ثقل إقليمي ودولي دعمتها بشبكة قوية من الاتصال والتواصل مع التجارة الدولية متعددة الأطراف، وقد وجه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة –حفظه الله- منذ توليه الحكم في بلادنا إلى تبني أنظمة إدارية عصرية في مؤسسات القطاع العام والخاص.

وساهمت جوائز الأداء الحكومي المتميز، وجوائز ريادة الأعمال، وبرامج إعداد القادة، ووسائل التدريب والتطوير الحديثة إلى رفع كفاءة الرأس المال البشري وفاعليته، وهكذا تكونت خبرة إماراتية كبيرة ومتينة في كيفية مزج السوق المحلي بالأسواق العالمية وأصبحت الإمارات اليوم تملك قاعدة عريضة من مكونات اقتصادها غير النفطي شملت التصنيع، التكنولوجيا، الفضاء، الاتصالات، الطاقة المتجددة، الإعلام، التعليم الخاص، الصحة، الطيران، السياحة والضيافة، وتجارة الاستيراد والتصدير، والعقار والصيرفة. أدى ذلك كله إلى تدفق الشركات الأجنبية من مختلف دول العالم على سوق المال والأعمال في بلادنا لتتبوأ الدولة اليوم مكاناً استراتيجياً هاماً وتملك اقتصاداً يقل اعتماده تدريجياً على الوقود الإحفوري (البترول).

جاءت الخلوة الحكومية «اقتصاد ما بعد النفط» التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لتؤسس نقلة نوعية في التخطيط الاستراتيجي لمسار التنمية في بلادنا، وخطوة جوهرية كبيرة لتأسيس اقتصاد قوي الأركان يعزز استدامة السعادة للأجيال القادمة.

إن اقتصاد المستقبل سيعتمد على المخزون الفكري والأصول المعرفية التي يمتلكها القادة الاستراتيجيون والتنفيذيون ليس فقط لمواجهة تحديات السوق ثم الولوج من خلالها إلى النجاح والتميز بل لأجل خلق فرص جديدة تدفع عجلة التنمية إلى آفاق أرحب، ويكون الإبداع محركاً رئيسياً في تطوير ونمو الاقتصاد، وفي هذا الشأن فقد نجحت دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة رئيسها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ،حفظه الله، أن تمتلك ممكنات متينة للإبداع والابتكار، فأطلقت الدولة عام 2014 الاستراتيجية الوطنية للإبداع وتأسست لجنة عليا لتنفيذ هذه الاستراتيجية وأطلقت مبادرات وفعاليات كان آخرها أسبوع الإبداع في شهر نوفمبر الماضي الذي شاركت فيه 200 مؤسسة قدمت 800 فعالية واعتمدت جوائز عدة للإبداع وتشجيع الموهوبين، بل وأصبحت لدينا اليوم حاضنات للإبداع والابتكار ففي مجال البحث العلمي انتشرت مراكز البحوث في معظم كليات جامعاتنا العريقة «جامعة الإمارات»، وفي مجال التكنولوجيا هناك جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا، وفي مجال الطاقة أصبح لدينا معهدان: المعهد البترولي وهو متخصص بالطاقة المتولدة من الوقود الإحفوري، ومعهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا يضطلع بالدراسات والبحوث المتعلقة بالطاقة المتجددة إضافة إلى معاهد وجامعات كثيرة في مدن وإمارات الدولة... يتبع.

Email