لا تتحايل.. طور نفسك

ت + ت - الحجم الطبيعي

في صيف عام 2005، كنا نستقبل المتقدمين للعمل في صحيفة «الوقت» البحرينية، التي انطلقت لاحقاً في مارس 2006، وحدث أن اتصل بنا أحد المساهمين، وهو رجل أعمال، يوصينا بحماس لا يخفى، بضرورة مقابلة أحد المتقدمين، وهو خريج حقوق، ويعمل في مكتب للمحاماة، ونشر بعض الموضوعات في صحيفة أسبوعية. عندما فحصت أوراق هذا المتقدم، وجدت شهادة التخرج من كلية حقوق بإحدى الدول العربية، وشهادات أخرى، وبضع قصاصات لموضوعات نشرها في تلك الصحيفة الأسبوعية، ولفت نظري موضوع له منشور على صفحتين، حول قوانين أعالي البحار، فقرأت بضع فقرات منه وتوقفت، وتوصلت إلى استنتاج، بأنه لن يجتاز المقابلة الشخصية التي سنجريها له مع زميل مسؤول آخر.

عقدت رهاناً مع زميلي المسؤول، بأن هذا الشاب المتقدم لن يجتاز الامتحان، وسيخيب الآمال. كان زميلي يتحدث عن المتقدم بنفس حماس من أوصانا بمقابلته، وراح أكثر من مرة يستعرض لي الموضوعات التي نشرها، خصوصاً المقال المطول عن قوانين أعالي البحار، فعقدنا الرهان، وجاء الشاب للمقابلة. كان الزميل يتولى إدارة المقابلة، فيما تقتصر مهمتي على المراقبة والتدخل في حدود.

سأله زميلي: ماذا تفعل إذا كان لديك مقابلة؟ أجاب الشاب: أجهز دفتر الملاحظات وجهاز التسجيل، أعاد عليه السؤال فأجاب: ماذا غير ذلك..؟ أتأكد من سلامة بطاريات جهاز التسجيل. أعاد السؤال للمرة الثالثة مع مزيد من الشرح والتلميحات المساعدة، فتأفف الشاب ورد: ماذا أيضاً.. دفتر الملاحظات وجهاز التسجيل وأقلام احتياط.

كان الجواب الذي ينتظره زميلي هو «التحضير للمقابلة»، وقراءة القدر الأكبر من المعلومات حول موضوع المقابلة، وعندما يئس من الشاب المتقدم أنهى المقابلة، والتفت صوبي وسألني: كيف عرفت أنه سيخيب آمالنا؟ أجبت: قرأت الموضوع الخاص بقوانين أعالي البحار، فعرفت أنه لم يكتبه، بل نقله من مرجع آخر، أضف أن هناك خبراء قليلين على مستوى العالم في قانون أعالي البحار، تستعين بها الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، وعددهم قد لا يتعدى 15 خبيراً على مستوى العالم، فهل تريد أن تقول لي إن هذا الشاب الذي لا يتجاوز عمره 25 عاماً، هو من كتب هذا الموضوع المكتوب بلغة خبراء؟.

العبرة في القصة، لا تتعلق بسلوكيات التحايل التي يسلكها البعض عند التقدم للوظائف، أو في الحياة عموماً، بل في القدرة على الحكم الصائب على القدرات والأشخاص والمعلومات، وتعيدنا القصة من جديد إلى أسئلة ملازمة لنا: هل تكفي الشهادة الأكاديمية أو غيرها للحكم على الجدارة، هل المظهر واللقب أو المسميات، تعني تلقائياً أن صاحبه خبير ومتمكن، ويملك جدارة مهنية ومعرفية؟.

وبعيداً عن التعميم المطلق، يصدق هذا، لا على الأفراد فقط، بل على الحياة العملية في كل ميادينها، لكن تعطينا القصة أيضاً لمحة عن الكيفية التي يفكر بها الجيل الجديد في ميادين عدة، فعندما كنت أتفحص أوراق المتقدمين للعمل، تذهلني السير الذاتية، وكمية الدورات وورش العمل التي شارك بها أصحاب الطلب في ميادين عدة، لكن في المقابلات، يعجزون عن الإجابة عن سؤال بسيط، لا في المعلومات العامة، بل في القدرات العملية وكيفية التصرف، وكان بيني وبين الزملاء نقاش مستمر حول معايير الحكم على من يصلح للعمل صحافياً، وكانوا يعتقدون أن أسلوب الكتابة هو الفيصل، لكنني كنت وما زلت أعتقد أنها الملكات الذهنية، أي مهارات، مثل القدرة على التحليل ومهارات البحث والاستنتاج المنطقي، فالاتكال على معيار اللغة والأسلوب وحده قادنا إلى انتشار السرقات الأدبية، وتقليد الرائج في أحسن الأحوال وأسلوب عمل القص واللزق لدى جيل كامل، وصار كافياً ترديد بضع عبارات ومفردات شائعة، لكي يعطي الشخص فكرة لمن حوله أنه صحافي متأصل في المهنة، لكن الاعتماد في الحكم على الجدارة، عبر مقياس المهارات الذهنية، هو ما يقود إلى اكتشاف الأكفاء ممن يملكون مثابرة وقابلية للتعلم، لكن للأسف، هم نادرون. نادرون لأن مقاييسنا السائدة لا تساعدنا على اكتشافهم.

إننا نعول على التعليم دوماً، ونحن محقون بالتأكيد، لكن ما أقوله هنا، هو أن التعليم وحده قد لا يكفي، ولهذا، فإن الجزء الملازم والمتمم، هو خطط تطوير التعليم، وهو أمر وخيار صائب أيضاً، وأحد أهم ما تركز عليه خطط تطوير التعليم هو المهارات والقيم التي يتعين أن يتعلمها الطلاب في مقاعد الدراسة، والعبرة في النهاية هي: التطوير المستمر. لا حدود للمعرفة، ولا حدود لاكتساب المزيد من الخبرة والمهارة.

Email