الاقتصاد نصف المعيشة أم كلها؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لست خبيراً اقتصادياً، ولست بصدد أن أعرض تحليلاً اقتصادياً، لكن في جعبتي قصة قد تُقدّم نموذجاً للمقارنة بين الطريقة التي تُفكّر بها أجيال من الخليجيين حتى الشابة منها عندما يتعلق الأمر بالتدبير والادخار وترشيد الإنفاق.

لقد تلقى جيلنا (زمنياً: جيلين قبل جيل كابتن ماجد) أول دروس الاقتصاد من آبائنا من خلال «قصة/‏موعظة» بحرينية شهيرة: «ذهب رجل ليقترض المال من أحد أثرياء الحي، كان الوقت شتاء فجلس الرجلان حول منقلة الجمر طلباً للدفء. طلب الضيف سلفة من المال من الثري ووعد بردها بأسرع ما يمكن.

وفيما هو يتحدث أخرج لفافة تبغ واشعلها بعود ثقاب، فتأمله الثري وابتسم قائلاً: النار أمامك وكان بإمكانك اشعال لفافتك من الجمر لكنك آثرت ان تخسر عود كبريت عوضاً عن ذلك.. انت لا تعرف كيف تحتفظ بما لديك فكيف تريدني ان اثق بأنك سترد مالي ان أقرضتك».

العبرة ليست في البخل الشديد كما قد يتبادر الى الذهن لكن التبسيط في القصة هدفه تعليم الصغار كيف يحافظون على ما لديهم اذا ما وجدت بدائل اخرى متاحة.

لقد نشأ جيلنا متقشفاً لأننا وآباؤنا لم نملك ما يفيض على حاجتنا الأساسية في وقتنا، لكن هذه القصة كانت لاتزال حية في الذاكرة واللاوعي. وكان آباؤنا الذين لم يذهبوا الى المدارس يعملون في وظائف شاقة ذات مردود قليل، لكنهم كانوا يرسلوننا الى المدارس والجامعات لأنهم يعرفون قيمة العلم وأهميته.

تعلمت اجيال من الخليجيين في الجامعات في بلدان شتى وفي الجامعات الوطنية ولاتزال، لكن يصعب القول ان تطوراً ملموساً قد حدث في نمط تفكيرنا حيال الادخار والترشيد وحسن إدارة الدخل.

لا يعرف الكثير من الخليجيين حتى الآن قيمة التكافل الاجتماعي، وهذا بدوره مرتبط بخاصية أخرى فيهم هي تدني إحساسهم بالمستقبل.

لقد ظل الاعتماد على الحكومات يوالي تأثيره الى الحد الذي فقد الناس في مجتمعاتنا تقريبا اي احساس او قدرة او رغبة في استثمار ما لديهم من اموال (حتى اليسير منها) في مشروعات ادخار أياً كان مسماها وشكلها ان على مستوى الأحياء او اماكن العمل او المهنة الواحدة. تعلموا نوعاً واحداً من الادخار هو ذاك الذي تروج له البنوك والاستثمار في سوق الأسهم او المحافظ الاستثمارية.

لقد تعالت الدعوات للترشيد وضبط الإنفاق في وقت مبكر، لكن الاتجاه ذهب الى مسار آخر هو «الخصخصة». لكن منذ ان غدت الخصخصة في ثمانينيات القرن الماضي موضة رائجة لدى الاقتصاديين الخليجيين، كنت ولازلت لا أراها الحل الوحيد خصوصاً عندما يتعلق الأمر بخدمات اساسية هي التعليم والصحة.

فالخصخصة اذا ما سارت وحيدة دون رؤية اوسع للتنمية «الاقتصادية الاجتماعية – socioeconomics» لن تمثل اي رافعة للاقتصاد إلا في حدود توفير جزء من الانفاق من الموازنة العامة الذي كانت تخصصه الحكومات للخدمات التي تم تخصيصها.

لقد صنعت دول الخليج نموذجها الخاص في الرفاهية، لكن هذا النموذج ظل قائماً على سلعة وحيدة هي النفط. ورغم الخطط التي بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي على الأقل لتنويع مصادر الدخل الوطني في معظم دول الخليج، فإن النفط لازال يشكل المصدر الرئيس للدخل في غالب دولنا الخليجية.

وفي نهاية المطاف فإن هذا النموذج ليس هو النموذج الوحيد للرفاهية عالمياً. فهناك نماذج عدة ابرزها نموذج الرفاهية في دول اسكندنافيا ويبقى الفارق دوماً في القدرة على توليد الثروات وحسن إدارتها، أي الطموح الذي تحمله خطط دولة الإمارات لتحويل اقتصادها إلى اقتصاد قائم على المعرفة بدلاً من الاعتماد على النفط.

وسواء عادت اسعار النفط الى الارتفاع او بقيت منخفضة، فإن الكثيرين بدأوا يدركون ان الاعتماد على تقلبات الأسواق لا يمكن ان يجلب ثروة حقيقية او يضفي قوة لأي اقتصاد ولا يسعف اي خطط للمستقبل.

خلاصة القول هنا، إن الوقت قد حان لتغيير جدي وحقيقي في انماط تفكيرنا. الرفاهية ستبقى لكن الفارق سيكون كبيراً اذا ما صنعنا نحن اسباب هذه الرفاهية ومحركاتها.

 قد ينفع بعض التذكير هنا بما جرى في العامين 2007 و2008 عندما استفاق العالم على نقص في امدادات القمح لدى الدول المصدرة نتيجة الجفاف فارتفعت أسعار القمح ومحاصيل أخرى. قرع الجرس بقوة فظهرت مشروعات استئجار اراض زراعية في بلدان اخرى وتمويل زراعتها بالقمح والأرز.

إذا خطر في بالكم انني سأقترح الاتجاه للزراعة فهذا صحيح، لكن ليس من الضروري ان نستعيد هنا صورة الفلاح الذي يشقى في الحقل ولا صورة الجرارات تحرث الحقول تحت هجير الشمس ولا اهدار الثروة المائية مثلما كان يخوفنا ذلك النوع من اقتصاديي وول ستريت، فالتقدم العلمي بات يوفر اساليب عديدة للزراعة ذات الإنتاجية العالية مع المحافظة على الثروة المائية، بل حتى تعميم الزراعة في المنازل بأبسط الإمكانات والتقنيات السهلة لتوفير المياه وتدويرها وإعادة استخدامها.

وكي لا يبدو الحديث سلسلة من المواعظ، أدرك تماماً أن السؤال الأهم لدينا الآن هو: كيف نُبقي على نموذج الرفاهية ومستويات المعيشة؟ لا أملك جواباً حصرياً لا يأتيه الباطل، بل إنني هنا أشارك الكثيرين التفكير بصوت عالٍ وأقدم اجتهاداً يدور حول فكرة واحدة: «الأمر بأيدينا».

Email