مهددات التنمية في المناطق الصعبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أنهت فيتنام حرباً ضروساً دامت ثلاثة عقود ما بين عامي 1946 و1975م، خلّفت الحرب بلداً مدمراً؛ فأصبحت المصانع والمنشآت الحيوية مدمّرة، والطرق والجسور وبقية البنية التحتية مدمرة، بل أُبيدت قُرى فيتنامية بأكملها وأحرقت الغابات واجتثت القنابل الأشجار من جذورها..

كما واجهت البلاد بعد الحرب معاناة إنسانية ونفسية وسياسية أليمة جداً، فبالإضافة إلى ألوف اليتامى والأرامل والمعاقين والمشوَّهين كان النَّاس في الشمال ينظرون إلى أهاليهم في فيتنام الجنوبية على أنهم عملاء للإمبريالية وعبيد للغرب..

وكان الجنوبيون ينظرون إلى أهل الشمال أنهم شيعيون ملحدون يحكمهم نظام دكتاتوري ظالم وبغيض، وهكذا كان إعادة التأهيل النفسي عملية شاقة ومؤلمة وقاسية. أما سياسياً فقد عاشت البلاد في عزلة حيث نبذها الغرب ونظر إلى الفيتناميين أنهم أعداء الرأسمالية والديمقراطية والمبادئ الإنسانية والقيم الغربية، بل فرضت دول الغرب حصاراً اقتصادياً دام عشرين سنة، ولم ينتهِ إلا في عام 1995.

باشر الفيتناميون ملحمة إعادة البناء والتعمير بتضميد الجراح وتعزيز اللُّحمة الوطنية لأجل ضمان الاستقرار النفسي، وبدأت فيتنام إعادة بناء مؤسسات الحكم فأعطت مساحة أكبر لحرية اتخاذ القرار في المؤسسات الحكومية، ووضعت مؤشرات أداء عملية وموضوعية التزمت بها كافة المؤسسات المملوكة للحكومة، كما قامت برصد محفِّزات الفساد ومحاولات الانحراف المالي والإداري وواجهت بؤر الفساد بقوة القانون وشفافية الإدارة المؤسسية..

كما تَحَوَّل اقتصاد فيتنام من المركزية المنغلقة إلى الاقتصاد الحر القائم على الشراكة مع القطاع الخاص وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، ثم جاء الانفتاح الثقافي والاجتماعي مع دول الجوار وبقية دول العالم لتحظى البلاد اليوم باعتراف دولي بأنها إحدى أقوى اقتصادات جنوب آسيا.

تتنوع مهدّدات التنمية في المناطق الصعبة بحسب الطبيعة الجيوسياسية والخصائص الاجتماعية والتعقيدات الفكرية والإثنية وحجم الدمار المادي والاقتصادي الذي خلّفته الحروب والصراعات الداخلية والخارجية.

يأتي الأمن الوطني في مقدمة مهدّدات التنمية في مناطق صعبة مثل هذه، وقد تسبَّب الانفلات الأمني في بعض الدول المنكوبة بأن عجزت حكوماتها في المحافظة على المكتسبات الحضارية والمادية والاجتماعية والاقتصادية، فأصبح الأمن هاجس كل والد وما ولد، فبسبب هذا الانفلات تباطأت عمليات التنمية أو توقفت تماماً، فلا المساعدات الدولية تَعُد تنفع ولا أصحاب النوايا الحسنة والأيادي البيضاء قادرون على تقييم مردود عطائهم وآثار معوناتهم.

وقد رأينا كيف أنَّ الدول المانحة علَّقت مساعداتها ومعوناتها في انتظار استتباب الأمن واستقرار الحال، بل ورأينا أنَّ المنظمات الدولية تُجلي موظفيها من هذه البؤر الملتهبة فلم تعد جهود الإغاثة الإنسانية تجدي ليخسر البائس الفقير حظه من العيش الآمن والحياة الهانئة.

إنَّ من مهدّدات التنمية في المناطق الصعبة التخبط في الجانب السياسي والدبلوماسي في علاقات الدول المنكوبة مع جيرانها والمجتمع الدولي فتآمر عليها أصحاب المصالح ينهبون خيراتها ويستغلون ثرواتها ويعيثون في الأرض الفساد.

كما يأتي الفساد الإداري والمالي بين المهدّدات الخطيرة للاستراتيجيات التنموية في كل بلاد الدنيا، وتزداد خطورة هذا الفساد وعواقبه الوخيمة في المجتمعات والبلدان المنكوبة بالأزمات والصراعات، حيث يُسبّب الفساد شللاً في القدرة المالية والكفاءة الإدارية، فتعجز الدول على مواجهة متطلبات البناء والتعمير لا سيّما في غياب إطار مؤسسي متين يطوّق مهدّدات كهذه ويعالجها.

كما أنَّ من تلك المهدّدات غياب الحوكمة العادلة والحازمة ذلك أن الحوكمة ضرورة ملحة ليس فقط لإحقاق الحق ودحر الباطل إنما أيضاً لخلق توازن معقول بين أصحاب المطالب السياسية والاجتماعية والتنموية..

حيث لوحظ أنَّ الحوكمة في البلاد الصعبة وإن وجدت فإنَّها بحاجة إلى رعايتها وصيانتها وإداراتها بقوة السلطان ورصانة الحكم الرشيد، وصدق عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: «إنَّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

كما أن الأميّة وتفشّي الجهل وغياب التعليم النظامي تأتي في مقدمة المهدّدات التنموية، بل لا تكاد خطة تنموية تنجح اليوم في مجتمع جاهل يحارب العلم والتعلم، ويتمسك بمحدودية التعليم وحصره في القدرة على الكتابة والقراءة فقط.

إضافة إلى أن ظلم المرأة واغتصاب حقوقها المدنية ومحاربة تعليمها وتثقيفها والاعتراف بقدراتها الخلاّقة في المشاركة في ملحمة البناء والتقدم والتطوير في كل قطاعات التنمية كل ذلك يعتبر مهدداً قوياً ومعرقلاً أساسياً في كل الخطط والاستراتيجيات التنموية.

أجل، تغلّب الفيتناميون بعد ثلاثين سنة من الحروب والاقتتال والصراعات المريرة على مهددات تنموية كادت أن تقطع نسيج بلادهم الاجتماعي وتُدمّر بناءها الاقتصادي وتقضي على مكتسباتهم الحضارية والفكرية والثقافية، ونجحوا نجاحاً باهراً في تأسيس دولة أصبحت تلقب اليوم: «التنين الصاعد» فهل من مدّكر؟!

 

Email