أعراض بداية العام الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكان الأمر رأس السنة أم غيرها. تمني حياة سعيدة للآخرين أمر ينم عن تهذيب خصوصاً إذا لم يكن هؤلاء ممن تربطنا بهم صلة من نوع ما.

بائعون في محلات، أو مجرد أناس نتبادل معهم حديثاً عابراً في الشارع أو في المترو أو أثناء الانتظار في عيادة طبيب، لكن لشخص مثلي يستوقفه دوماً سلوك الناس والسياق الأوسع لزمنهم لربما بأكثر مما يحتمل الأمر أحياناً (تعبير ملتوٍ ومخفف عن أعراض الاكتئاب)، فإن تكرار الأمنيات أصبح بالنسبة لي أمراً، يقودني إلى حقيقة واحدة لطالما دفعتني لضرب رأسي بالجدار أحياناً.

لا أود أن أبدو كمن يفتقد الكياسة، لكن هذا التكرار في الأمنيات بعام جديد وسعيد، تتحقق فيه الأماني قد يعبر عما هو أكثر من مجاملة لطيفة، أي أنه في معنى خفي يعبر عن الأمل الذي يتمسك به الناس، بل وعلينا جميعاً أن نتمسك به، لكن الأمر لا يتعلق بالأمل.

فالناس في كل الأزمان ستبقى تتمسك بالأمل باعتباره السبيل الوحيد للحياة، لكن إذا كان الواحد منا يكرر الأمر مطلع كل عام، ألم يفعل الناس من قبل الشيء نفسه؟ كم عاماً وكم عقداً من السنوات، وكم جيلاً وراء جيل، وكم قرناً بعد قرن مارس الناس الشيء نفسه: التهاني والتمنيات الطيبة؟

قد لا يتعلق الأمر بالأمنيات والتهاني، فهي سلوك طيب وحسن يجب أن يربط بين الناس، لكن هذا التكرار يمتد ليصبح الحقيقة الوحيدة في كل ما يتعلق بالناس. أكاد أفقد طعم ومعنى أي أمر سواء أكان حديثاً حول أي شأن من شؤون الحياة أم حواراً فكرياً أو سياسياً أو ثقافياً، فقط عندما أتذكر أو أدرك أن مثل هذا الحوار قد تم في زمن سابق، ولربما ترددت فيه الكلمات نفسها أو بعضها والدوافع نفسها والاستنتاجات نفسها.

خبرت مثل هذا الأمر مرات لا تحصى. أشترك في مجادلة أو أكون شاهداً عليها، فأقرأها في كتاب أو رواية، تدور في بلد أوروبي أو حتى في الصين. أقرأ حواراً دار في لحظة عصيبة في بلد ما وقت أزمة أو حرب، فلا ألبث إلا أن أقرأ مثله في كتاب، يتناول حقبة تاريخية غابرة.

الأمر ليس تجربة شخصية، وليس حكراً عليّ، فأنا أتحدث عما يمكن أن نسميه «استنساخ التاريخ». تهاني العام الجديد ليست إلا مثالاً ناعماً ولطيفاً يذكرنا بسلوك بشري مازال يحيرني إلى حد كبير: لماذا يستنسخ الناس التاريخ دوماً؟

لست أتحدث هنا عن شجار متكرر آلاف المرات في مئات البلدان حول أولوية المرور بين سائقين ولا عن رفض زواج رجل بامرأة يعارض أهله أو أهلها ذلك لسبب أو أكثر تكرر ملايين المرات عبر التاريخ، بل عن التاريخ نفسه: دول وحكومات وشعوب ونخب حاكمة وتجار تكرر فصولاً لطالما قرأنا عنها في كتب التاريخ. كم مرة قرأتم هذا: «وأخفى التجار البضائع في مخازنهم أملاً في أرباح أكبر؟»، أو هذه: «لا أقول وداعاً بل إلى لقاء قريب».

أبعد من هذا، فإن التاريخ يتكرر في البلد الواحد على نحو مدهش، فلقد وجدت (وجدها غيري بالتأكيد قبلي وقبله كثيرين) أن حرباً أهلية تتجدد في بلد واحد كل 10 أو 20 سنة ولا يبدو أن الأمر سيتغير، بل إن مثقفيه وأبناءه يعيدون إنتاج هذه الحقيقة من جيل إلى جيل.

التأمل في استنساخ التاريخ هذا يقود إلى بعض الحقائق، التي تحرك السلوك البشري (كتب عنها شكسبير في مسرحياته في القرن 16)، وعلى رأسها «الأنانية».

تبدو الأنانية تفسيراً معقولاً للحروب والسعي للتملك والهيمنة، أي ما سيصبح في تعبيرات القرن العشرين وما سيليه: «المصالح».

لم يفسر شكسبير- لم يكن مطالباً بذلك- لماذا يموت أبطال مسرحياته على مذبح الأنانية والغيرة والجشع والتعصب الأعمى، لكن مسرحياته شاهدها الملايين في كل أنحاء العالم وترجمت إلى مختلف اللغات، ومثلت على خشبات المسرح في كل البلدان، فهل كان هذا كافياً لكي يتعظ الناس ويتناسوا تلك الدوافع؟

يدهشني أحياناً كيف أن التشابه بين الوقائع التاريخية يدفع البعض سريعاً لتشبيه أحداث زمنه بحوادث تاريخية جرت منذ قرون طويلة، فعندما بدأ زحف قوات ألمانيا النازية على الجيران، لجأت نخب المثقفين في أوروبا في ذلك الوقت إلى التاريخ، وأطلقوا على النازيين: «الهون الجدد»، مستعيدين بذلك فصلاً دموياً من تاريخ أوروبا هو ذاك الذي شهد غزو شعب «الهون»، بقيادة أتيلا لاوروبا ما بين (395 و496 للميلاد).

 أما نحن فلم نجد سوى غزو التتار لبغداد العباسية لكي نشبه الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

من التاريخ إلى تفاصيل حياتنا اليومية، كم مرة تكررت الكلمات والجمل في مواقف شتى أمامكم، أحسب طيلة سنوات الوظيفة وحتى التقاعد، وفي حفلات التقاعد هذه، ستقال الكلمات نفسها أيضاً، وسيمتدح المديرون والرؤساء الموظفين المحتفى بهم بكلمات تكررت، منذ أن عرف الناس تقليد الاحتفاء بمن يصل إلى سن التقاعد.

سأكون شاكراً وممتناً إذا ما قام قارئ كريم بإهدائي مقالاً مشابهاً في فحواه لمقالي هذا كتب في صحيفة غربية أو عربية أو حتى صحيفة «كنتاكي ديلي نيوز» أو حتى في «زيمبابوي تريبيون»، لا لكي أثبت صحة ما ذهبت إليه، بل لأتأكد أن هذه ليست أعراض «بداية العام الجديد».

Email