من البحرين إلى الإمارات

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الصف الرابع الابتدائي عام 1968، غادرنا استاذ مادة العلوم بعد شهور من بدء العام الدراسي مرتحلاً إلى أبوظبي للعمل مدرساً هناك. وما إن بلغنا العام 1971، إلا وارتحل الكثير من المعلمين البحرينيين إلى أبوظبي للعمل في مدارس الإمارات.

لقد هاجر البحرينيون إلى دول عدة بحثاً عن الرزق، فلقد عملوا في مشروع مد خطوط التابلاين في السعودية في أربعينات القرن الماضي وفي شركة «ارامكو» حتى منتصف السبعينات. ومنذ منتصف ستينات القرن الماضي، وجهوا أشرعتهم نحو الإمارات التي كانت وقتذاك تنهض بتؤدة.

عملوا في كل المجالات تقريباً خصوصاً التعليم، واستقر بعضهم في الإمارات.

وعندما أتأمل حال المنازل الستة في زقاق بيتنا في أحد أحياء جنوب مدينة المحرق، فإن مصير ثلاث من هذه العائلات انتهى في الإمارات.

فجيران البيت الأول استقر بهم المقام عند أهلهم في أبوظبي. والبيت الملاصق لبيتهم انتهى الحال بأهله في الشارقة التي ارتحل جدهم الكبير لها في أوائل ستينات القرن الماضي معاراً لحكومة الإمارة باعتباره أحد البحرينيين الأوائل في قيادة رافعات الحمولات الكبيرة في الميناء.

وفي منتصف الثمانينات استقرت أختي في الشارقة بعد زواجها من أحد أبناء عمومتنا. وفي آخر المطاف، أخذتني الأقدار كي أحط رحالي في إمارة دبي منذ نحو أربع سنوات. وفي زقاق آخر قرب منزل جدتي، كان هناك منزل تقطن به سيدة في مقام أمي أصلها من الشارقة، وفي المنزل الملاصق لمنزلها أم أخرى من رأس الخيمة.

ها أنا الآن أعيش متواصلاً مع عائلتنا الممتدة في إمارات الدولة، التقي بكبارها الذين كنت أسمع عنهم من والدي رحمة الله عليه وأحضر الأفراح مهنئاً وأحضر الوفيات واتلقى العزاء في كبير أو قريب رحل.

مواقف عدة صادفتها منذ أيامي الأولى تركت أثراً كبيراً في نفسي.

لقد كنت استخدم المترو يومياً منذ أن استقر بي المقام في دبي ولمدة 4 سنوات تقريباً.

لم أكن ارتدي الثوب والعقال وقتها، وصادف أن هاتفني ذات يوم شخص من البحرين وأنا أهم بالوقوف عند رصيف المحطة، فاذا بشرطي مواطن كان يقف بالجوار يحييني بعد انتهاء المكالمة ويسألني: «خويه أنت من البحرين»؟ أجبته: «نعم كيف عرفت». أجاب: من «رمستك». هو من رأس الخيمة، تعارفنا وصرنا نحيي بعضنا كلما التقينا بالمخاشمة.

تعرفت على زميل له من «حتا»، وبعد حين استوقف العاملين في المحطة أن هذين الشرطيين كانا يحييان شخصاً يلبس بدلة أوروبية ويحمل حاسوباً محمولاً بالمخاشمة وبود ظاهر. سألهما أحدهم: «منو ها بوبدلة اللي تسلمون عليه؟» أجاباه: «ربيعنا البحريني».

وفي المترو نفسه، صادفت زحاماً معتاداً وأنا عائد من عملي للمنزل ذات يوم من أيام شتاء 2012. ليلة جمعة والناس تستعد للذهاب إلى المجمعات الكبرى وعائلات إماراتية شغلت نصف مقاعد الدرجة الذهبية وتفرق الأطفال والفتيات والأمهات على المقاعد.

دخلت المقطورة وأنا انهي محادثة بالهاتف (لا يتصلون إلا لحظة دخولي عربة المترو..)، لم يكن هناك مقعد شاغر، فما كان من سيدة إماراتية ترتدي النقاب التقليدي إلا أن أمرت حفيدها بأن يترك المقعد لي وأومأت لي بيدها أن أجلس مكان الصغير، سمعت «رمستي» فعرفت أنني بحريني. شكرتها وأومأت للصغير أن أجلس مكانك. كررت الأمر كلما توقف القطار في محطة وكانت تهمس أحياناً: «اقعد أمي..».

شكرتها مجدداً: «مشكورة أمي.. الله يسلمك.. خلي الصغيروني مكانه».

وذات يوم وقفت في الطابور لاستصدار بطاقة الهوية، وعندما وصلت إلى نضد الاستقبال، رأى الموظف الجواز فهتف بي: «يا مرحباً اخوي.. شحالك..» ورفع السماعة من فوره وأوصى زميلاً له بأن يتولى أمري «أقول لك.. بيجيك واحد ربيعنا بحريني». وما أن وصلت المكتب المعني حتى رأيت شاباً يقف عند الباب مرحباً بي بحرارة. أنجز المعاملة بكل ترحاب وود وأوصاني أن احتجت شيئاً أن اتصل به مباشرة. ما بين هذه التحايا واللطف، سؤال لازم عن البحرين وسرد لذكريات وقصص وسؤال لا غنى عنه عن «التكة البحرينية» و«حلوى شويطر».

وذات مرة، ابلغتني زميلة إماراتية من أبوظبي أن جارة بحرينية لها علمتها منذ سنوات كيفية تحضير بعض الطبخات البحرينية /الخليجية لكنها نسيت كيف تضبط «مجبوس الروبيان» مضيفة: «انتم احسن من يطبخ مجبوس الروبيان». أبلغتها نصيحة أو اثنتين لضبط «المجبوس» وعادت بعد أيام لتبلغني أن الطبخة ضبطت وشكرتني على الارشادات. أما الطلب الذي لا يتغير على لسان إحدى زميلات العمل من الشارقة كلما سألتها عما تريد من البحرين: «متاي حار اذا ما عليك كلافة».

الإمارات اليوم بالتأكيد ليست هي الإمارات التي جاءها البحرينيون للعمل في ستينات القرن الماضي، لكن الحقيقة الباقية هي أنها لاتزال تحتضنهم بحرارة ومودة. لن تحتاج الإمارات كلمات مني تشيد بنهضتها وريادتها لأن هذا شاخص للعيان. أما تلك المواقف والقصص الصغيرة فهي تعني لي الكثير لأنها مليئة بأكبر المعاني: «المحبة». هي الحبل السري الذي يجمعنا بالإمارات، الذي يجعلني أتردد في وصف وجودي هنا بالغربة. «المحبة» هي تحيتي للإمارات في عيدها الوطني.

Email