حنين يرمم الذاكرة الجماعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

غنت الفنانة اللبنانية أليسا نشيد «موطني» في أبريل 2015، لكن تلك النسخة ليست الوحيدة التي يستعاد فيها هذا النشيد الوطني الفلسطيني. ثمة نسخ حديثة عديدة لهذا النشيد، الذي ظهر للمرة الأولى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي.

فهناك نسخة جميلة ظهرت عام 2012، يؤديها الفنان اللبناني هاني متواسي حولها «الدودوك»، أي الناي الأرمني، إلى نسخة مؤثرة.

وفي عام 2013، أطلق متسابق «سوبر ستار» مراد السويطي نسخته للنشيد الموزعة على البيانو، وهي نسخة جميلة أيضاً. كما أطلقت الفنانة اللبنانية كريستين صوايا نسختها من النشيد في مايو 2015. وعدا هؤلاء، ثمة العديد من النسخ يؤديها شبان من بلدان عربية عدة، مثل البحرين والجزائر وسوريا.

لقد كتب الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان نشيد «موطني»، ولحنه الموسيقار اللبناني محمد فليفل عام 1934، وغدا النشيد الوطني الفلسطيني منذ ذلك الحين وحتى عام 1965، عندما ظهر نشيد آخر هو «فدائي»، الذي كتبه الشاعر الفلسطيني سعيد المزين، ولحنه المصري علي إسماعيل عام 1965.

أعاد الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودراكيس توزيعه عام 1981، ثم أعاد توزيعه من جديد الملحن الفلسطيني حسين نازك عام 2005، ليصبح النشيد الوطني الفلسطيني الرسمي.

الأمر نفسه مع نشيد «بلاد العرب أوطاني»، الذي كتبه فخري البارودي، ولحنه الأخوان فليفل أيضاً. السؤال الجدير بأن يطرح هنا: ما الذي يجذب الجيل الأصغر من العرب في الألفية الثالثة للميلاد، لاستعادة نشيد وطني فلسطيني يعود لمنتصف ثلاثينيات القرن الماضي؟.

من المؤكد أن النشيد يملك سر جودته الفنية وحياته المتجددة هذه، لكن الأمر لا يخلو من دلالات سوسيولوجية دون شك. وعلى نحو ما، قد يساعدنا قليل من التأمل في سمات الجيل الشاب من العرب خصوصاً، في مفصل تاريخي، هو مفصل عام 2011، مع انطلاق موجة الاحتجاجات في أكثر من بلد عربي.

سبق انطلاق هذه الاحتجاجات، انتشار لافت لموسيقى «الراب»، التي غدت وسيلة من وسائل تعبير الأجيال الشابة من العرب عن نفسها في معظم البلدان العربية. حمل ذلك الانتشار، سمة مشتركة، هي التعبير عن الجيل نفسه وطموحاته ونظرته لزمنه.

وما انطلقت أولى موجات احتجاجات الشبان العرب في تونس أواخر عام 2010، حتى اعتقل نظام بن علي مغني راب تونسي شهير، هو حمادة بن عمر، المشهور باسم «الجنرال»، الذي أطلق أغنيات مناصرة للاحتجاجات، مثل ما كان يفعل قبل سنوات من ذلك العام.

وفي مصر، انتشرت أغنيات الراب أثناء ثورة 25 يناير بشكل لافت، أما في اليمن، أطلق فنان شاب، هو محمد ألأضرعي، أغنيات عديدة، أبرزها «الشعب يريد إسقاط النظام» و«إيش عاد تشتي منا».

ولأن تراث الاحتجاج قديم ومتأصل في مصر، فقد استعاد الشباب المصريون أيضاً أغنيات أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، العائد معظمها لسبعينيات القرن الماضي، خصوصاً أغنية «الجدع جدع» و«بقرة حاحا».

وإذا نحينا جانباً، التفسير السهل الذي يرد حنين الأجيال الشابة لشيء من التردي في الغناء العربي حالياً، فإن صعود «الراب» أثناء الاحتجاجات، بدا مشابهاً لانطلاق موسيقى الراب في أميركا في سبعينيات القرن الماضي، على يد الأفارقة الأميركيين، وانطلاق موسيقى «الروك آند رول» في الخمسينيات، تعبيراً عن احتجاج اجتماعي.

لكن هذا الصعود عربياً، سرعان ما أعقبته هذه الموجة من استعادة الأناشيد الوطنية العربية القديمة. ففي سوريا مثلاً، ومع انطلاق الاحتجاجات الأولى في مارس 2011، تم استعادة نشيد الوطنيين السوريين الأوائل «يا ظلام السجن خيم»، الذي كتبه الصحافي السوري نجيب الريس عام 1922 في السجن، أثناء الانتداب الفرنسي، ولحنه أيضاً اللبناني محمد فليفل.

وفي خضم النضال المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي، استعاد الفلسطينيون أغنية فلسطينية شهيرة (يا أولاد حارتنا)، وتم نشر نسخ عديدة منها على موقع «يو تيوب»، اعتباراً من 2012 على الأقل.

لست خبير علم اجتماع ولا مؤرخاً، لكنني أدرك حتماً العلاقة الوثيقة بين الفن واتجاهاته، وبين زمنه الذي يظهر فيه. ومن المؤكد أن هذه الأعمال تستعاد من جديد، نظراً لجودتها الفنية قبل كل شيء، فهذا شرط خلود الأعمال الفنية على مر الزمن.

قد تكون هناك تفسيرات عديدة لهذا الحنين، لكن من المؤكد أيضاً، أن الحنين عندما يتحول إلى إجماع عام، فان هذا يعبر دون شك عن قلق عميق، وانعدام يقين بشأن المستقبل. هنا، تبدو استعادة أغنية «موطني» و«بلاد العرب أوطاني»، مثلاً، بالنسبة لي، علامة إيجابية على نحو ما، وقد أكون مخطئاً في إحساسي هذا.

فالعودة إلى أغنيات زمن مضى، قد يكون تعبيراً عن رغبة دفينة في استعادة زمن تلك الأغنيات. ليس لي هنا سوى الحدس، بأن وقتنا هذا الذي تستعاد فيه هذه الأغنيات، يحمل في طياته مخاطر وجودية، ليس أقلها تقسيم دول المنطقة وتفتيتها.

هنا تبدو هذه الاستعادات، وكأنها محاولة لترميم الذاكرة الجماعية، مثلها مثل هذا التذكير الذي لا يتوقف ببديهيات التعايش والمواطنة والقيم الإنسانية الرائج جداً في أيامنا هذه، في الصحافة وفضاء التدوين على الإنترنت.

أما المضي في التأمل، فسيقودنا إلى صدفة غير محسوبة، لا تتمثل في أن ملحن ثلاثة من أبرز الأناشيد المستعادة واحد، هو اللبناني محمد فليفل، بل في أن هذه الأناشيد تعود إلى زمن صعود الفكر القومي العربي.

Email