هناك لحظة مفصلية تحدد مسار السياسي ومستقبل الدولة. متى ما استطاع السياسي أن يدرك هذه اللحظة فهو يضمن تاريخه ونجاحه. هذه اللحظة هي التي يشعر السياسي أنه حان وقت المغادرة واتخاذ القرار بمبادرة منه قبل أن يفرض عليه.
والسلطة لها اغراء وجاذبية تعمي السياسي عن الواقع ويرتبط بالأوهام والخيال.
خاصة في ظل وجود الجوقة حوله التي تصور له أنه المنقذ والزعيم الأوحد وأن الشعوب تتغنى باسمه صباحا ومساء وهكذا يختلط الوهم مع الواقع, وتكون النتيجة تباعدا كبيرا بين حقيقة الأمور على الأرض والخيالات الوردية في رأس الزعيم.
وهذا الذي يبدو تبسيطا للواقع السياسي إلا أنه حقيقة هو سبب دمار دول وقتل وتشريد شعوب.
وتاريخيا وفي العصر الحالي حينما يفقد الزعيم السياسي الصلة بالواقع تكون بداية النهاية.
فحينما عاش صدام حسين هذا الوهم وتمسك بالسلطة وكانت هناك عشرات الفرص أن يتخذ قرارا ينهي معاناة شعب ويحمي مؤسسات الدولة ويتنازل عن السلطة وبدلا من ذلك استبد بالسلطة ودخل في حروب داخلية وخارجية كانت نتيجتها تحطيم العراق وانهيار مؤسسات الدولة وقتله هو وابناؤه في نهاية مأساوية. هذا السياسي الذي فقد معرفة التوقيت لايدري انه بهذا التجاهل فقد شرعيته وفقد حياته.
المؤسسات الديمقراطية في العالم المتقدم حمت الدولة من طغيان سلطة السياسي ووزعت السلطات بين مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والأهم اتخذت قرارا يعتبر الأهم في حماية الديمقراطية وهي أن رئيس الدولة له أن يترشح فترتين رئاسيتين فقط مهما كانت الظروف.
ونذكر ان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون كانت له شعبية ولو سمح الدستور لفترة ثالثة لكان فاز في الانتخابات كما قال المراقبون في ذلك الوقت.
وكانت لقطة بعض الامريكيين وهم يرتدون صورا للرئيس كلينتون وهم في مراكز الانتخابات يصوتون للرئيس الجديد طريفة وتعكس اعجاب الناس بأداء الرئيس. لكنه الدستور واحترامه الذي يمنع سيطرة العاطفة على القرار السياسي. والتي تجعل العقلانية هي المحدد للقرار وليس المسيرات الضخمة في الشوارع تطالب الزعيم بالاستمرار في السلطة والتضحية بوقته وصحته من اجل الشعب.
من يتذكر مجلس الشعب السوري حينما غير الدستور في لحظة لانتخاب الرئيس بشار الأسد وكيف تحول المجلس الذي يمثل الشعب ويفترض فيه السلطة التشريعية والرقابية على الدولة الى اراجوز يتنافسون في التصفيق ويقفز احدهم من كرسيه ليصرخ بشعارات التأييد للرئيس, وما إن ينتهي حتى يقفز الأخر بقصيدة تمجد الرئيس المنقذ, وهو يتباهى بهذا المنظر على منصة الخطاب ويبتسم في منظر محرج وتقزيم لشعب عظيم مثل الشعب السوري.
ولذلك النتائج ما نراها الآن, ما يزرع في الأمس يحصد اليوم. فتحول هذا الذي كان يراهن كثيرون أنه سينقل سوريا الى مصاف الدول المتقدمة والديمقراطية ليصبح واحدا من اكثر الزعماء الدمويين في التاريخ المعاصر.
سوريا الآن هي ضحية لتمسك زعيم بالسلطة والنتيجة ملايين اللاجئين و٣٠٠ الف قتيل وانهيار الدولة من الداخل وسقوط معظم مساحاتها في ايدي منظمات ارهابية وميليشيات.
هل تستحق السلطة كل هذه التضحيات. وبغض النظر عن كل المبررات, هل يمكن أن يقبل الانسان بهذا القتل والتدمير من اجل أن يستمر في الحكم. وكيف له ان يتخيل ان يستمر في الحكم بعد كل هذا الدمار.
كيف غاب عن السياسي هذه اللحظة التي يقرر فيها أنه حان الوقت لأخذ زمام المبادرة ومغادرة السلطة. هذه اللحظة اللعينة التي تختفي في اشكال شتى, لتوهم الزعيم بأنها بعيدة ومازال هناك مجال للبقاء والمناورات. ليكتشف بعد فوات الأوان أنها رحلت.
إدراك هذه اللحظة ملكة للسياسي الحكيم الذي يستطيع ان يراها في الوقت الذي تختفي من الاخرين. وحتى في الدول الديمقراطية يدرك الزعيم المحنك هذه اللحظة. فمارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق كانت في قمة نجاحها السياسي, ولكنها أدركت ان هناك تمللا من استمرارها في السلطة حتى من الدوائر القريبة منها في الحزب. فاتخذت قرارها الشهير بالانسحاب من السلطة. هذا الفرق بين من يلجم شهوة السلطة ومن يذهب ضحيتها.
وتجسد التجربة الليبية تماما حالة الفصل بين الواقع والخيال للزعيم السياسي, فالقذافي كان يعيش وهما متضخما لدرجة أنه بدأ متفاجئا مما يحدث حينما صرخ بصيحته الشهيرة ( من أنتم). لأنه يعتقد ان الكل يعشق الزعيم الأوحد وأنه من المستحيل ان يجد شخصا واحدا يعارضه سياسيا إلا إذا كان متعاطيا كما وصفهم في خطاباته. الوهم هو ما يدمر الزعماء. شهوة السلطة لعينة ولجمها يحمي السياسي قبل أن يحمي الدولة.
وفي حالة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح فرغم حكمه الطويل لليمن ومساعدة دول الخليج له في اتفاق يحميه ويمنحه الحصانة, إلا أنها ايضا شهوة السلطة. فهو لم يستطع أن يتخيل أن شخصا آخر يسكن في القصر الجمهوري في صنعاء فتحالف حتى مع أعدائه من أجل السلطة. ودمر الدولة ومؤسساتها من أجل حسابات شخصية له, ويذهب ضحيتها شعب كامل.
التجارب التي حصلت في المنطقة تعطي رسالة ان بناء مؤسسات الدولة وترسيخ ثقافة حقوق الانسان واحترام الدستور هي التي تحمي الدولة من نزوات السياسيين وجنونهم. فالدمار الذي حصل في الدول العربية كان من الممكن تجنبه فقط لو استطاع السياسي ان يقدم مصلحة الدولة على مصلحته الشخصية. والأخطاء رغم دمويتها هي درس للشعوب ورسالة للاجيال فالخطأ يحصل لكن الكارثة تكرار الاخطاء.