بروز الإرهاب كظاهرة موجود في المجتمعات وتمددها وتطورها إلى درجة أنها تتحول من مفهوم العصابة مثل الجيش الجمهوري في أيرلندا أو الجيش الأحمر في اليابان أو منظمات المافيا في إيطاليا، إلى تنظيمات اندمجت فيها الأيديولوجيا بالإرهاب مثل تنظيم القاعدة.
وأخيراً، في صورة أكثر بروزاً وجسارة مثل داعش وهو شكل يسعى إلى بناء دولة واحتلال مدن واستثارة العواطف من خلال الزعم بإحياء مفهوم الخلافة، فتمارس إرهاباً عنيفاً تتباهى فيه وتتفنن في درجات التعذيب وصور القتل البشعة.
والإرهاب يدفع ثمنه كثيرون في دول العالم، وأصبح قضية دولية وقاسماً مشتركاً في كثير من الاجتماعات الدولية. وفي دول المنطقة تسعى وزارات الداخلية لمحاربة هذه التنظيمات الإرهابية وبعضها استطاع أن يحقق نجاحات أمنية باهرة.
فالسعودية كشفت عن خلايا إرهابية بالمئات وعمليات كانت على وشك التنفيذ وأحبطت مشروعات إرهابية كانت تسعى لإحداث أكبر الضرر وأكبر عدد من الضحايا. وكذلك في الكويت تم الإعلان عن القبض على خلايا إرهابية وكميات هائلة من الأسلحة، وأيضاً في البحرين. وهذه النجاحات هي في جزء واحد من المعادلة، ولكن هناك أيضاً شروط أخرى يتطلب النجاح فيها لمحاربة الإرهاب والقضاء عليه.
كانت هناك مبادرات عدة من أجل محاربة الفكر الذي يغذي التطرف وعقدت مؤتمرات عدة لمناقشة هذه القضية. واتفق كثيرون أن تجفيف منابع الفكر الإرهابي شرط أساس لمحاربة العمل الإجرامي ووقف محاولات تجنيد الشباب للانخراط في هذه التنظيمات.
وهناك حديث عن تعزيز الفكر الوسطي المعتدل وتطوير المناهج ومحاسبة الأشخاص الذين يصدرون فتاوى القتل ويشرعون للإرهاب والقتل. وهذه خطوات مهمة وتحتاج إلى مشاركة من كل الفئات، وكذلك قوانين تفرض معاقبة من يخالف هذا التوجه.
وإذا كان الإرهاب ومحاربته أمنياً وفكرياً يعتبر الهم الأول لدى الحكومات في المنطقة. فهناك جانب مهم لم يأخذ حقه الكافي من الدراسة والتحليل وهي ظاهرة التغيير الاجتماعي. فمجتمعاتنا عاشت تغييراً اجتماعياً هائلاً وهناك أعراض لهذا التغيير تتفاعل مع بعضها البعض وتفرز تطورات جديدة خارج السياق المتوقع.
فالمجتمع بطبيعته متغير والمجتمعات تعيش هذا التغيير منذ بدء الخليقة وحتى الآن، ولكن سرعة التغيير والاختلالات في التركيبة البنيوية للمجتمع تجعله يتعرض لضغوط قوية داخل كل فرد وكذلك لتشكّل اجتماعي جديد.
والتغيير الاجتماعي يحدث بشكل مستمر ويغير من العلاقات داخل المجتمع، وكذلك اختلاف في الوظائف والأدوار الاجتماعية وما ينتج عن ذلك من تغيير في الأنظمة والعادات والقيم، وهناك شرائح اجتماعية تعيش هذا التغيير وتتكيف معه، وهناك شرائح تكون ضحايا لهذا التغيير الاجتماعي ويتعرضون إلى هزة في المفاهيم والقيم ويصبحون عرضة سهلة للانقياد والتأثير من الغير. وتكون المجتمعات الأكثر سرعة في التغييرات هي الأكثر تأثراً في الجوانب الاجتماعية. ولذلك نجد الشباب صغار السن هم وقود هذه المنظمات الإرهابية.
ومصطلح التغيير الاجتماعي يظل حديثاً نسبياً ويعد الكاتب وليام أوجبرن وكتابه (التغير الاجتماعي) الذي أصدره في 1922 من الأوائل في هذا المجال، والذي فتح المجال لدراسة ظاهرة التغيير في المجتمع وانعكاساتها على المجتمع والفرد.
وفي المجتمعات العربية هناك معطيات مختلفة فالدين عامل أساس في ثقافة وأسلوب حياة الناس، كما أن التغيير الاجتماعي كان سريعاً من خلال التطور الهائل في أساليب الحياة والثورة المعلوماتية، وهذه جعلت الفرد البسيط في قرية نائية مطلعاً على ثقافات مختلفة وأنماط جديدة للحياة في أوروبا وأميركا وغيرها.
ومن الطبيعي أن هذا الانفتاح يولد تأثيرات مباشرة وأخرى في العمق تأخذ وقتاً أطول ولكن تأثيرها أقوى. فالتغيير يكون من مصدر داخلي نتيجة تفاعلات ضمن النسق الاجتماعي وأخرى من مصادر خارجية تأتي من خلال التواصل مع المجتمعات الخارجية أياً كانت صور هذا التواصل.
التغيير الاجتماعي حقيقة واقعة ومفهوم كوني ينطبق على كل المجتمعات والثقافات. ونحن كمجتمعات شهدت تغييرات متسارعة وفي زمن قصير نسبيا إلى أننا لم نعط اهتماما لدراسة سوسيولوجية التغير الاجتماعي سواء في ظاهرة التطوير الإيجابي أو التخلف الرجعي. فالنظريات الاجتماعية تقول إن التغيير ليس بالضرورة أن يعني التقدم بل قد يعني التغير بمعنى التراجع والتخلف.
ظاهرة الإرهاب وانخراط شباب من صغار السن في هذه العمليات مسألة خطورتها ليس فقط في الضحايا فحسب، ولكن في القدرة التي تجعل شاباً في مقتبل العمر يذهب إلى هذا الحد الأقصى من العمل الإرهابي البشع.
الأمر يتطلب النظرة إلى المجتمع ودراسة التغيير الاجتماعي وآثاره على تركيبة الشخص ونظرته للحياة وتفاعله مع غيره من الشرائح في المجتمع. هناك خلل في هذه العلاقات والتفاعلات ينتج عنه هذا التشوه الخطير.
مشكلة الإرهاب ليس قضية أمنية وحسب بل هي أيضاً اجتماعية. ونحن في مناقشاتنا نتحدث عما يحدث على السطح كظاهرة، ولكن المطلوب هو الدخول في العمق والتحليل بشكل متجرد وعلمي.
ما يحدث من ظاهرة يتطلب مقاربة مختلفة وإعادة تعريف لجوهر المشكلة، وربما علم الاجتماع مدخل مهم لطرح حلول تلامس الجذور ولا تكتفي فقط بالفروع.