صناعة الفاشية والحنين لها

ت + ت - الحجم الطبيعي

استلم هاتفي على نحو متكرر تسجيلاً مصوراً لمدرس في بلد عربي يصفع تلاميذ صغاراً من الأولاد والبنات، ما بين السادسة والسابعة من العمر، على وجوههم، ويضرب بعضهم بعصا في ساحة مدرسة. لقد بدا الأطفال الذين كانوا ينتظمون في صف طويل مستسلمين، ينتظرون دورهم لتلقي صفعة أو ضربة من العصا من يد هذا المدرس. وبدا هذا (أتردد في وصفه بالمدرس)، وقد شد قناع الجدية على وجهه بقسمات لا تلين، وهو يصفع الصغار والصغيرات واحداً تلو الآخر، وكأنه يفرغ شحنات غضب بداخله.

وقبل حوالي شهور، تلقى هاتفي أيضاً، تسجيلاً قصيراً أيضاً لمدرسة في بلد من أميركا الجنوبية يصطف فيه المعلمون لتحية التلاميذ والتلميذات الصغار وهم يصلون إلى المدرسة صباحاً بطريقة «المخاشمة» الشائعة لدينا. ليس غرضي هنا أن أفتح نقاشاً أو مقارنةً بيننا وبينهم (على جاري العادة)، حول أفضل الوسائل في التربية وتنشئة الأطفال.

لا ليس هذا غرضي، بل: «رصد اللبنات الأولى للفاشية في مجتمعاتنا». ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك المشهد المقزز؟ ما الذي يمكن أن يتعلمه الأطفال ويستقر في نفوسهم من صفعات يتلقونها صباحاً على وجوههم؟ ما الذي يدفع رجلاً عهد إليه بتدريس الأطفال، لصفعهم على هذا النحو المهين والحاط للكرامة؟ لقد جادل جزء العاملين في سلك التعليم لعقود طويلة، أن العصا والضرب ضروريان لتقويم سلوك الأطفال..

وسخروا من نظريات التربية التي تعتمد التوجيه والتفاعل مع الطلبة، واعتبروها مدعاة للتراخي والتسيب. هذا الخلط بين الرجولة والفظاظة والزجر الذي تلبس أجيالاً من المعلمين والمسؤولين العرب، وحتى اليوم، ليس وصفة سحرية ونهائية لتقويم السلوك، بل أولى اللبنات لتخريج أجيال تحمل في نفسها بذور فاشية ستظهر في ما بعد.

هكذا، وبعد عقود طويلة من التعليم النظامي الحديث في البلدان العربية، تصبح الفاشية هي القاسم المشترك وكلمة السر بين أجيال من العرب لا يوحدها شيء، لا في خياراتها السياسية أو الاجتماعية. فمنذ عام 2011..

وما شهده من ثورات للشباب في بعض الدول العربية، تم إقصاء المنتفضين من الشباب من المشهد لصالح قوى الإسلام السياسي (السنية والشيعية)، التي لم تقدم أكثر من نزعات إقصائية وخطاب سياسي لا يعبر سوى عن فاشية متأصلة: فهم مشوه اختزل الإسلام في القتل الهمجي وقطع الرؤوس وهدم الآثار، تصفية الخصوم وتكفير كل مخالف.

وبدا صوت نخب المعارضة المدنية والمتمسكة بقيم التعددية والديمقراطية والحداثة يخبو أمام زحف هذه الجماعات المعادية للعلم الحداثة ومكتسبات الإنسانية.

إذا كان ظهور هذه الجماعات وانتشارها يبدو ثمرة طبيعية لعقود طويلة من الاستبداد والقمع الذي مارسته أنظمة مستبدة، فإن التشوية لحق بأجيال أصغر باتت تمثل ما يشبه المخزون البشري لهذه الجماعات.

ففي عام 2004، كنت أجري تحقيقاً صحافياً عن خطف وقتل المدنيين الأجانب الذي مارسه تنظيم «القاعدة» وقتذاك، فسألت موظفة شابة في العشرينيات من عمرها عن رأيها، فقالت: «يستحقون ذلك». وبررت جوابها بأن هذا انتقام لما يفعلونه بالعرب في العراق وفلسطين.

صدمت حقاً من منطق «الكتل الصماء» هذا، فلقد عبرت تلك الفتاة بطريقتها عن تلك الفتوى التي قامت على أساسها الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين، وصدرت عام 1998، والتي تقول: «إن حكم قتل الأميركيين وحلفائهم مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم في كل بلد متى تيسر له ذلك.. إلخ».

ولأنها لم تكن من ذلك النوع من المتدينين، بل غير محجبة، فإن الصدمة تحولت رعباً، لأن جوابها يعني أن منطق «تنظيم القاعدة» بات معمماً ومنتشراً. وقبل شهور، عبر غالبية من الشبان في استطلاع للرأي عن اعتقادهم بأن ما يقوم به تنظيم «داعش» يمثل الإسلام.

ما الذي يجعل الناس تنجذب للطروحات الفاشية ومنطق التعميم المطلق (كل الأجانب كفار.. إلخ)؟ يطرح الكثيرون أكثر من جواب، فالقمع والاستبداد تفسير قائم وصحيح، والفقر واليأس أيضاً، لكن الجميع يكاد يجمع على أن أولى مظاهر الخلل تبدأ في التعليم. والخلل هنا لا يتعلق بأساليب الزجر والفظاظة في التعامل مع التلاميذ، بل أيضاً في تعليم يتردى يوماً بعد آخر في العديد من البلدان العربية.

إن المقارنة بين مشهد المدرس العربي (أسميه كذلك تجاوزاً، وعلى سبيل التوضيح) ذاك الذي يصفع الأطفال الصغار واحداً بعد الآخر، ومشهد المعلمين في تلك الدولة اللاتينية وهم يصطفون لتحية التلاميذ بملامسة الأنوف، أكثر من كافية لكي توضح الفارق الحقيقي في العلاقة التي تربط المعلمين بتلاميذهم: «المحبة».

وثمة فارق أهم يمثل سياقاً أكبر للمقارنة. فدول أميركا الجنوبية، عانت مثلما عانت دول عربية من وطأة الأنظمة العسكرية والانقلابات والحروب الأهلية عقوداً طويلة..

لكن غالب مجتمعات تلك الدول، تلمست طريقها للمستقبل، وسعت جهدها للتعافي من آثار حقب الاستبداد التي حكمتها بوطأة ثقيلة من القمع وأكلاف من الضحايا البشرية. لكن هنا، لا أحد يفكر بالمستقبل، بل يستيقظ الحنين للاستبداد والفاشية وتمجيد المستبدين بشكل مخيف.

إن محاربة الفاشية مهمة أساسية على جدول أعمال الحكومات لمحاربة التطرف، والبداية هي: «المدارس».

 

Email