مفهوم الفقر والثراء الشامل

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر ظاهرة الفقر من أهم المعضلات التي شهدتها المجتمعات منذ القدم، وهي من أخطر القضايا، ومن أهم أسباب الثورات الاجتماعية والسياسية، ويختلف تعريف الفقر، وقد يعرف بعدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة، أو الحرمان في تحقيق الحاجات والمستلزمات الضرورية والأساسية للحياة، كالمأكل والملبس والمسكن، وقد يختلف تعريف الفقر من مجتمع لآخر.

وعلى النقيض، يختلف مفهوم الثراء، فبعض يرى أن الثراء يكون صاحب ثروة مالية ضخمة، وآخر يفهم الثراء الامتلاك الوافر والفائض عن الاحتياجات ومتطلبات الحياة الضرورية، فيقال شخص ثري على حجم الامتلاكات المالية والمادية من أسهم وعقارات ومجوهرات وغيرها، كما يعرف في الغالب ثراء الشخص على ما يدخر في حسابه المصرفي من الرصيد.

وأحياناً نجد أن مفهوم الفقر والثراء نسبياً، وقد لا يقترن بمدى ثراء الشخص مادياً، إلا أن المفهوم في الغالب يصب التركيز في الجوانب المادية والمالية، فتعريف الثراء والفقر السائد في المجتمعات، يعتليه كثير من الشوائب، فهو تعريف هزيل مصاب بكثير من التقصير، يحجب التأمل الحصيف للمفاهيم، يدعمه نفوذ مغشوش لقشور المظاهر والمستكملات المبتكرة في جوانب الحياة المتعددة..

ويوطده اللهث وراء الأدوات والمستلزمات الجديدة للمعيشة، ومن الأجدر طعم المجتمعات ميادين الرؤية الصحيحة للمفاهيم، وزيادة التوعية بالسبل المتاحة لمفهوم شامل للفقر والثراء، يترادف أيضاً مع المفاهيم غير المادية..

بحيث تصاحب كلمتا الفقر والثراء لميادين أوسع، تشمل الجوانب الوجدانية والثقافية والفكرية والأخلاقية والإنسانية، فقد يكون شخصاً ثرياً فكرياً وفقيراً عاطفياً، أو ثرياً مادياً وفقيراً أخلاقياً، وقد يكون شخص ثرياً في كل الجوانب، وآخر فقيراً في بعضها.

ومن خصائص الاستحواذ للمال أو الماديات الإجلاء به بوسائل متعددة، إلا أن القيمة الفعلية للماديات، معرض للتقلبات والتغيرات، وتقيم علاقة عكسية مع الإصراف والاستخدام، فالإفراط في الاستخدامات المالية وصرفها قد يؤدي إلى فقدانها، بينما الإمكانات غير المادية لها علاقة ثابتة أو طردية مع زيادة الاستخدامات، فكلما استخدم الشخص طاقاته وإمكاناته الفكرية والأخلاقية والثقافية، زاده ثراء، فالطاقة المخزونة في الثراء غير المادي طاقة مستدامة، تبقى مهما قضم منها، بل تزهو وتتضاعف مع الاستخدام.

الثراء غير المادي ثراء نبيل، وميْدان فسيحٌ لا يقلُّ أهميَّة من الثراء المادي، إلا أن السبل المتنوعة والمتاحة لامتلاك أدوات متنوعة مادية متعددة، تتسع يوماً بعد يوم، مع تنوع أشكال المستلزمات والأدوات والابتكارات الجديدة..

وفي المقابل، لا توجد استراتيجية واضحة تعزز الثراء غير المادي، خصوصاً في الجوانب الحسية والروحية، كما لا توجد حوافز ملائمة لتشييد ميادين الكثافة الروحية أو الحسية، تطابق أو تشابه تلك الموجودة في الميادين المادية، ما يعزز لهث الأفراد للثراء المادي مقارنة الانجراف للثراء غير المادي.

إعادة بلورة بعض المفاهيم الاجتماعية من المحركات الأساسية للاتجاهات السلوكية الصحية، وترسيخ القيم الاجتماعية عن طريق تعديل المنظور الاجتماعي لبعض المفاهيم السائدة، كما أن تكثيف الوسائل الممكنة لتعزيز الميادين غير المادية من مقومات لبناء جيل متكامل ثري ثقافياً وفكرياً وأخلاقياً..

ومن البواعث لترسيخ الجوانب الحسية أو الروحية، ومن الضرورة استبطان مخيلة الطفل المفاهيم التي تعزز التنمية الاجتماعية الصحية، فالمال وحده لا يكفي لإيجاد الشخصية السوية، الناجحة السعيدة، فالخواص المؤهلة للإصلاح والخير والتطوير، تنبع أولاً من الجذور الفكرية والثقافية والأخلاقية.

نرنو لبناء مستقبل جيل متماسك خلقياً وروحياً وثقافياً وأدبياً، قبل بناء جيل مهيمن مادياً ومالياً، جيل من الأفراد يهرع بتطوير السلوكيات وتعبئة رصيد الأفكار والثقافة والأدب، قبل تعبئة الرصيد المالي، وكما نتطلع إلى جيل يبحث وينقب عن مصادر ومراكز لثراء مخزونه غير المادي، كما يلهث أفراد الجيل الحالي لامتلاك الماديات والشكليات.

 

Email