حاول أن تخرج من الصورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حاول أن تخرج من نفس الصورة. جرب أن تخرج من الصور المتكررة التي تراها وتسمعها كل يوم. حاول أن تنظر للأشياء وكأنك تراها للمرة الأولى. تكتشف حقيقة واقع لم يتخيلها أحد. استطاعت الجرعة الإعلامية اليومية لمناظر الدمار والقتل والتفجير، أن تقتل فينا الإحساس.

أصبحت القضية التي تتنافس فيها الوكالات والصحف هي أرقام الضحايا. فكلما كان الرقم مرتفعاً، كان الخبر مهماً. اختزلنا حياة الناس في أرقام، وأصبحنا نتلقى الخبر بكل بشاعته وقساوته ونتجاوزه ببرود، وكأن شيئاً لم يكن.

أصبح واقع اللامبالاة جزءاً من ثقافة المواطن العربي. فالضغوطات والبحث عن لقمة العيش، تجعل الشخص يتعامل مع هذه الأخبار بطريقة، وليكن. وكأن ما يعرض هو مسرحية يتابعها بعدم اهتمام. مع أن المصيبة، أنه هو نفسه قد يكون ضحيتها في يوم من الأيام.

لكنها حالة التبلد التي أصابت الكثيرين، فما عاد هناك ما يستحق الاهتمام. إنها انعكاس لحالة إحباط دفينة وانكسار أحلام، تترجم في تجاهل متعمد لهذه الأحداث. وأصبحت القضايا الكبيرة والأحداث التي تهز المجتمع، مجرد أشياء هامشية في حياة الإنسان العربي.

ومن ينظر لردود الفعل للجريمة البشعة التي ارتكبتها عصابة داعش في حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، يجد أنها أثارت استنكار الناس، ليس لأنه قتل، وكأن هذا أصبح أمراً طبيعياً، بل لكيفية القتل. حينما تحول هذا المشهد إلى لقطة تتناقلها شبكات التواصل الاجتماعي، وكأننا نستعرض لقطة فيلم هوليوودي.

أي واقع هذه الذي نعيشه. جرب أن تخرج من الصورة اليومية، لترى الواقع للوهلة الأولى. ما هذا الذي يحدث. ميلشيات وعصابات وحروب ودول تنهار، وتردٍ في الأوضاع ومستقبل مقلق. كيف انتهى الواقع العربي إلى هذا الحال. وهل نكرر أسطوانة المؤامرة.. وإلى متى؟

فشل العرب في مشروع التنمية، سواء للإنسان أو للكيان، سبب مباشر لهذا الواقع المأساوي. فالإنسان العربي فقد البوصلة، وأصبحت معاناته اليومية هي أساس همه وتفكيره. وأصبحت السلبية جزءاً من هويته.

وتحول إلى ضحية لما يسمى بصدمة القذيفة، وهو تعبير استخدم بعد الحرب العالمية الأولى عندما كانوا الجنود يشاهدون مناظر القتل والتفجير والضحايا. ما جعل فيهم شعور اللامبالاة وغياب الإحساس بالتفاعل الاجتماعي. وأوجد شعور الغربة لدى الفرد، لأنه فقد الانتماء للجماعة.

وهذا الواقع الذي نراه اليوم في المجتمع العربي، من غياب الإحساس بالتفاعل الاجتماعي. بينما وجود إحساس المسؤولية والتفاعل الاجتماعي، هو الذي يولد مجتمعات قادرة على صنع التغيير نحو الأفضل، ورفض الظواهر الخارجة عن النسق العام. هو ذاك الفعل الذي يتصدى لتيارات التطرف والتكفير والقمع، وينحاز للإنسان والوسطية والاعتدال.

حينما تصبح لغة التخوين والتهديد وادعاء امتلاك الحقيقة هي اللغة السائدة، يكون الإنسان العادي الذي يحلم بحياة كريمة ومستقبل آمن، هو الضحية.

جزء من مشكلة الإنسان العربي هو خضوعه لمفهوم السلطة. والتي هي ليست بالضرورة سلطة الحكومة، بل حتى سلطة المجتمع نفسها، تجعل الفرد العربي غير قادر على أن يكون ذاته. فيصبح خطابه هو الخطاب الذي يتوقعه منه المجتمع.

وبالتالي، تصبح الازدواجية في حياته بين خطاب وفعل يمارسه ليتوافق مع المجتمع، وربما خطاب وفعل خاص فيه الذي يجد فيه نفسه وذاته.

الازداوجية أيضاً تسهم بدورها في خلق السلبية لدى الفرد العربي. هو يعلم أن ما يقوله ليس بالضرورة ما يؤمن به. ومن هنا، فتفاعله مع قضايا مجتمعه سلبي، لأنه لم يكن ذاته. القمع يولد شعوباً غير قادرة على صنع القرار، وعلى تحديد مسار مستقبلها.

فهي شعوب تعيش تحت الوصاية، وتتعود على تحجيم قدرة الإبداع والتفكير من أجل أن تتواءم مع الواقع وتتماهى مع المحيط الذي تعيش فيه.

لذلك نرى الشعوب التي كانت مقموعة من سلطة الدولة، مثل العراق وليبيا وسوريا، كيف فشلت الشعوب في مسك زمام المبادرة. وأصبحت هي نفسها ضحية لأخطاء تمارسها، وتحولت البنية الاجتماعية لديها إلى ميلشيات وعصابات والضحية هو الإنسان.

هذا يؤكد أن القمع السياسي أو الاجتماعي يهمش استقلالية الفرد وتفكيره ورؤيته، ويتحول إلى رقم في مجموع. وهنا تنتهي الطموحات، وتصبح القضية لقمة العيش فقط.

نحتاج أن نخرج من إطار الصورة. وأن ننظر للأشياء بواقعها وحقيقتها. التغيير لا يصنعه القرار السياسي. التغيير ينطلق من الفرد. من قناعة كل فرد بأنه يستطيع أن يسهم في التغيير. حينها يتصدى الإنسان للسلبيات والأفكار المتطرفة، ولثقافة القطيع، هنا يبدأ يدرك الفرد أهميته كعنصر مؤثر، ودوره كصانع للمستقبل.

 المجتمعات المتطورة هي التي ترتكز على استقلالية الفرد وحقه في الاختلاف وتحترم قراراه. ولذلك مؤشرات الرأي العام مهمة لأنها صوت الناس. متى ما استطاع الشخص لدينا أن يكون ذاته، فقد وضعنا الخطوة الأهم في بناء مجتمع المستقبل.

 

Email