مبارك.. و«المنفعة الحدية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا سقط الرئيس مبارك ونظامه؟ السؤال يبدو سهلاً والإجابة ليست مستعصية، ولكن، لنحاول معرفتها بشيء من الاختصار عبر نظرية «المنفعة الحدية»، وهي نظرية شهيرة جداً في علم الاقتصاد، وترجمتها في أمثالنا الشعبية البسيطة «الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده».

وفي المثال الذي يقدمونه في كتب الاقتصاد لتقريب هذه النظرية إلى الفهم، «أن الإنسان إذا أكل تفاحة فإنه يستمتع بحلاوتها كاملة بنسبة 100%، فإذا أكل تفاحة ثانية فإن نسبة الاستمتاع ستنخفض إلى 50%، وإذا أكل التفاحة الثالثة ستنخفض نسبة الاستفادة إلى صفر%». وبعد ذلك ستكون نسبة الاستفادة أو الاستمتاع بكل تفاحة يأكلها بالسالب، وستسحب أيضاً من رصيد التفاحات الأولى، أغلب الظن أن شيئاً كهذا حدث مع فترات حكم الرئيس السابق حسني مبارك.

فهو إذا كان قد استطاع تقديم كل ما يمكن تقديمه من خدمات لمصر وشعبها خلال دورات الرئاسة الثلاث الأولى فإن إنجازاته كانت بالسالب في الدورات التالية، ما أوصل البلاد إلى المأزق الأخير في عهده، وبتعبير آخر فإن الرئيس السابق أفسد في سنوات حكمه الأخيرة ما أنجز أو أصلح في سنوات حكمه الأولى.

وإذا قال قائل إنه لم يقصد ذلك، ولم يتعمد الانحراف بدفة البلاد إلى هذا المأزق الخطير، فإن المنطق يقول إن البقاء في المنصب لسنوات طويلة وعدم تداول السلطة وديكتاتورية الإدارة، كلها أمور تقود إلى الفشل خاصة إذا لم تكن هناك شرعية واضحة تكفل الاستمرار للحاكم والنظام، ولنتأمل فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات التي استمرت أحد عشر عاماً، سنكتشف أنه فعل شيئاً من هذا القبيل.

أسس حكمه في أعقاب وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على شرعيتين، الأولى شرعية «ثورة التصحيح» وإغلاق المعتقلات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإنهاء ما سمي بدولة المخابرات، بداية من مايو 1971، والثانية شرعية حرب أكتوبر والعبور العظيم والانتصار الكبير للجيش المصري الباسل على القوات الإسرائيلية عام 1973.

ولكن في سنوات حكمه الأخيرة انقلب هو بنفسه على هاتين الشرعيتين، بالنسبة لشرعية حرب أكتوبر فقد سقطت مع مبادرة السلام واتفاقيات «كامب دافيد» ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (خلال السنوات من 1977 إلى 1979).

أما شرعية ثورة التصحيح فقد أسقطها بقرارات الخامس من سبتمبر 1981، عندما فتح المعتقلات مجدداً، وحشد فيها كل معارضيه من السياسيين والمفكرين والكتاب والصحافيين، وحتى الطلاب، في أضخم حملة اعتقالات من نوعها تشهدها مصر عبر تاريخها، وكانت بالفعل أقرب ما تكون إلى مذبحة المماليك التي ارتكبها والي مصر محمد علي باشا داخل القلعة للتخلص من خصومه عام 1811، ولكن من دون إراقة دماء، فانقلب الشعب المصري عليه في المشهد الختامي الذي انتهى باغتياله وسط جنوده. ويرتبط بذلك سؤال آخر حول أحداث يناير:

- هل تأخرت ثلاثين عاماً؟ الإجابة عن هذا السؤال يمكن رصدها من التقاط خيوط الجملة الأخيرة في الفقرة السابقة، فالمجتمع المصري كان في حالة غليان قصوى بالفعل في الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس الراحل السادات، وكانت الدولة المصرية وقتها حبلى بكل مقومات الثورة المجتمعية الشاملة، نتيجة الصدام العنيف بين السادات وقوى المجتمع على اختلاف توجهاتها، إضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات الاجتماعية والعامة بشكل كبير.

أي أننا في تلك الحقبة من تاريخ مصر كنا بالفعل نعيش حالة مشابهة لما قبل الخامس والعشرين من يناير مع اختلاف الدرجة، فالقمع والديكتاتورية وتوحش الأجهزة الأمنية لم تكن على مثل هذه الدرجة المتقدمة برغم وجودها وتعدد معالمها، وكذلك الفساد والسلب والنهب لم يكن قد استفحل هكذا برغم مظاهره الواضحة. وبرغم ذلك فإن الثورة الشاملة ربما كانت وقتها بحاجة إلى شرارة تفجير، ولكن الشرارة جاءت في الاتجاه المعاكس فأطلقت البخار المكتوم في صدور الشعب المصري، ونزعت حالة الاحتقان من داخله، هذه الشرارة كانت اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات في العرض العسكري الشهير ليوم السادس من أكتوبر عام 1981، ما أدى بالفعل إلى وأد مقدمات الثورة.

وبذلك لا مبالغة في التأكيد أن الذين أقدموا على اغتيال السادات قد أضروا بالشعب المصري، لأنهم فوتوا عليه فرصة الثورة الشاملة التي كانت ستؤدي حتماً إلى إسقاط النظام على غرار ما حدث في ثورة الخامس والعشرين، أما اغتيال السادات فأدى إلى تغيير الشخص والإبقاء على النظام.

وهذا هو الفارق الكبير بين الثورات المجتمعية الشاملة والاغتيالات السياسية، الأولى تؤدي لسقوط الأنظمة وتبديل الشرعية وتجديد المجتمعات، أما الثانية فإنها تؤدي إلى اختفاء الشخص مع بقاء نظامه.

وبذلك فإن العمل الراديكالي الذي أقدم عليه الذين اغتالوا السادات أدى إلى إرجاء الثورة المجتمعية نحو ثلاثين عاماً، بالتأكيد من دون أن يتعمدوا ذلك، فلو افترضنا أن موعدها كان ينبغي أن يكون العام 1981، فقد تفجرت في العام 2011.

ولنتصور أن تياراً سياسياً معيناً أراد أن ينتقم من الرئيس مبارك عقاباً له على تجاوزاته فقام باغتياله، ترى ما النتيجة المحتملة، بالتأكيد رحيل مبارك وبقاء نظامه لسنوات أخرى مع تفويت الفرصة على الشعب المصري للقيام بثورته، وتبقى الإرادة الشعبية العليا ـ في ضوء هذه الاحتمالات ـ أقوى وأهم وأفضل بكثير من أي اغتيالات سياسية.

Email