الملاذات الصغيرة وصحراء فاطمة الهاملي

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مدى يومين شاهدت ثلاثة أفلام تشترك في خاصية الخروج عن قالب السرد السينمائي التقليدي، فأفلام «الشجرة النائمة» للبحريني محمد بوعلي، و«قدرات غير عادية» للمصري المخضرم داوود عبد السيد و«بيردمان» للأميركي اليخاندرو غونزاليز تشترك في كسر قالب السرد التقليدي بأشكال مختلفة من تقنيات تداخل الأزمنة أو استرجاعها.

وفيما يبقي عبد السيد وغونزاليز لممثليهما مساحة للأداء الذي يبدو طبيعياً، تدفع جمل الحوار القصيرة والقليلة والتركيز العالي على المشهد وتعبيرات وجوه الممثلين لدى محمد بوعلي ممثليه إلى أداء مؤسلب يبدو محفزاً للفضول في الغالب رغم هدوئه.

وفيما تجول كاميرا غونزاليز في الغالب داخل دهاليز المسرح وكواليسه لتعكس أجواء التيه، الذي يلف بطل الفيلم، فان مشهد هذا البطل (مايكل كيتون)، وهو يجري شبه عار في الشارع يبدو بليغاً للغاية: فهو هنا (رغم شهرته ممثلاً مخضرماً) موضع سخرية وتساؤلات ويبدو ضائعاً عكسه في متاهة دهاليز المسرح، فالمشهد رغم جرعة السخرية فيه وانتشاره اللاحق على مواقع التواصل الاجتماعي يعكس غربة البطل عن زمنه.

أما داوود عبد السيد، فيوالي رسم مشاهده بالشاعرية التي تميز بها دوماً، فالنزل (البنسيون)، الذي وجد الدكتور يحيى (خالد أبو النجا) نفسه فيه يبدو الملاذ الآمن الذي تقصده كل الأرواح المتعبة، فهو جميل بتنوع نزلائه وبالطبيعة الساحرة من حوله وهواء البحر النقي الذي يجدد الرغبة في الحياة لدى سكانه.

أما خارجه، فالأمكنة والشوارع تبدو خطرة وتضج بالقلق. هكذا يقدم غونزاليز وعبد السيد العوالم الصغيرة المعزولة (دهاليز مسرح، نزل صغير على البحر) ملاذاً من حياة باتت تضج بالقلق والتوتر والانسحاق.

أما محمد بوعلي في «الشجرة النائمة»، فقد رسم مشاهده بعناية كعادته، وبدت جمل الحوار المقتضبة بين أبطال فيلمه تعكس توتراً مكتوماً يدور حول الأمل واليأس في شفاء طفلة مصابة بشلل دماغي.

وعلى هذا النحو سار الفيلم في جزأين بدا الأول بطيئاً أخذ يتسارع بسلاسة يتميز بها بوعلي في أفلامه نحو النصف الثاني من الفيلم الذي عمد فيه المخرج والسيناريست فريد رمضان إلى كسر طابع السرد عبر استعادة الزمن واستبداله وتداخل الأماني (المتخيلة) بالواقع تعبيراً عن التأرجح بين الأمل واليأس من شفاء الصغيرة ليقودنا بالنهاية إلى الشجرة الأعجوبة، التي نمت منذ ما يزيد على 400 عام على ربوة في صحراء البحرين والمعروفة بـ«شجرة الحياة»، ويقدمها مجازاً للأمل والتمسك بالحياة.

أما الإماراتية نجوم الغانم، فقد أعادتنا في فيلمها التسجيلي الفائز بجائزة الأفلام التسجيلية «سماء قريبة» إلى الواقع عبر توثيقها لقصة فاطمة بنت علي الهاملي، منذ فيلمها «بين ضفتين» حول آخر مواطن يمارس مهنة العبرة في دبي، تستقصي نجوم كعادتها المميزين وأصحاب التجارب المتفردين في الإمارات. وبعد «حمامة» الممرضة الشهيرة في الشارقة، نحن أمام سيدة إماراتية ممهورة بالتحدي والتوق إلى التفرد اسمها فاطمة بنت علي الهاملي وبطاقة تعريفها تقول: «أول مربية هجن إماراتية».

التحدي الذي تخوضه فاطمة الهاملي وإصرارها- رغم الرفض- على المشاركة في مسابقة أجمل الهجن المعروفة محليا بـ«المزايين» وشخصيتها المتفردة في القوة والإصرار على الحلم وتحدي التقاليد، من بين أكثر ما يجذب المتلقي لهذا الشريط الجميل، فشخصية أم محمد آسرة حقاً وتبدو عفويتها وتلقائيتها مقابلاً لحلمها الذي تعبر عنه أكثر من مرة في الفيلم نحو الوصول إلى أبعد سماء.

تكرر أم محمد أكثر من مرة في الفيلم حبها للعيش في الصحراء مع الجمال والنوق وليس في المدينة، وتوالي الحلم بالفوز بجائزة «المزايين» بعفوية تدفع المتلقي للضحك، لكن براعة الإخراج تجلت في تحويل هذا الحلم والتوق من بين مشاهد تسجيلية اعتيادية إلى مشاهد آسرة وجميلة عندما تعرض الكاميرا «أم محمد» تسير متأملة وحيدة في كثبان الصحراء على مد البصر. إنها الصورة الأكثر بلاغة للتوق البشري للحرية.

يعكس الفيلمان الخليجيان هنا التسجيلي الإماراتي «سماء قريبة» والدرامي البحريني «الشجرة النائمة» إضافة إلى الفيلم اليمني الفائز بجائزة المهرجان للأفلام الدرامية «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» والفيلمين الإماراتيين الأخريين «دلافين» و«عبود كنديشن» (لم أشاهد الثلاثة لسوء الحظ) تطوراً نوعياً للسينما في الخليج وشبه الجزيرة العربية.

وفي جزء من هذا التطور يمكن التنويه بالدور الذي تلعبه مهرجانات مثل مهرجان دبي السينمائي الدولي.

 

Email