ابتسامة موناليزا المستغيثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عصر النهضة بإيطاليا تظل التماثيل الكلاسيكية في روما صامدة أمام السنوات العابرة والتقلبات المتغايرة، تنثر أريجها في أزقة وممرات المدن الإيطالية لتبلغ أصداءها جميع المدن الأوروبية والعالمية، وفي متحف اللوفر الشهير بفرنسا، تقبع لوحة موناليزا تستقطب ابتسامتها الغامضة أفواج الزوار والسياح المتدفقة من جميع أقطار العالم.

امتاز عصر النهضة الذي بدأ في إيطاليا وامتد من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر بالتطورات الثقافية والإسهامات الفنية الفذة، وترأس صانعو الفنون الكلاسيكية ميادين المبارزات والتحديات، فانتشرت بصمات الفن في قمم المباني، وامتدت الزخارف الملونة جوف القبات ورؤوس المنارات، وفاح أريج الفنون عبر الأزمنة والعصور.

وتستدعي لوحتا «موناليزا» و«العشاء الأخير» ملايين السياح من أقطار العالم، وتعتبر من اللوحات الفنية الشهيرة للرسام والفيلسوف العالمي ليوناردو دافنشي أحد عباقرة الفن، جسد روح عصره وترك بصمة خالدة في مجال الفن، كما يعتبر مايكل أنجلو من فناني عصر النهضة، وهو شاعر ونحات إيطالي، أسماء رسامين وفنانين مشهورين، تهز عرش جميع الأسماء البارزة واللامعة حتى عصرنا الحالي.

 أعمال فنية سامية ستبقى خالدة، ولدها وقود الحماسة، وأشعلها عنفوان التحدي والمراس. عندما أتى عصر الثورة الصناعية، بدأ بانحسار تلك الأعمال الجليلة والأسماء الشامخة، وانكماش حركة الإبداعات الفنية مقارنة بعصر النهضة، وتممتها الثورة التكنولوجية والإلكترونية..

حيث كبحت اندفاعة الحماسة لصياغة التفاصيل الفنية الكلاسيكية الدقيقة لا سيما فن الرسم والنحت، وبترت الحوافز والدوافع لخلق بيئة محفزة للأيادي الخلاقة والأعمال الفنية العملاقة، وأبادت الحوافز لمحيط حافز لرائجي ألوان آسرة من الفنون الكلاسيكية، فقد أبادت الاتجاه الاندفاعي لصناعة فن يبارز الإرث الفني لعصر النهضة..

وشنت الثورة الصناعية بخواصها ومنتجاتها التكرارية والتقليدية ووسائلها اللوجستية قنابلها لتغتال حواس الفن، وتنزع فتيل الحماسة لقيام نهضة رائدة للفنون على غرار الثورة الفنية، التي فجرت في عصر النهضة، ونزعت اندفاع الطاقات الفنية، وبلعت أوسمة المجد لعباقرة العصر الحديث في مسارات فنية آسرة، وكسرت هيجان التحديات لأوجه من الفنون العملاقة والأدب العريق.

وفي العصر الحديث، احتلت المجالات الصناعية والتكنولوجية وشبكات التواصل الإلكتروني الحواس والفكر، فقد بات معظم النشاطات والأعمال مرهونة بالشبكات والوسائط الإلكترونية تتحكم في كل جزيئات اليومية، وقد بلغت قيمة التلامس الحقيقي لمفردات السلوكات والمسارات الطبيعية، وأضحى الناس في عصر عقيم بالعلاقات الوجدانية السرمدية، وبليد بالروابط الاجتماعية الحميمة، وقلبت موازين القيم والمفاهيم والتطلعات، حيث أضحى الأشخاص أنصاف روبرتات، أسرى للحوارات الإلكترونية والمقاطع المتعثرة..

وغابت معظم الذكريات المفعمة باللقاءات والزيارات والنشاطات الطبيعية وأصبحت سجل حوارات إلكترونية منقضة، حتى أصوات الضحكات التي كانت تندلع من الأعماق أصبحت رموزاً مطبوعة أو حروفاً إلكترونية، وبات عصراً جامداً متجمداً تحكمه الآليات والصناعات والإلكترونيات، عصراً ابتعل نكهة التقدير الروحي لجمال الجزئيات الفنية الملموسة، وسحق القيمة الحقيقية لأوجه من الفن الرفيع، وربما بين تقلبات العصر وأدخنة المدنية المتعالية..

قد يتجلى وسط الصناديق والعلب العتيقة بعض الرسائل والصور المحفوظة، تاركاً لنا بقايا ذكريات قديمة ملموسة. ما زالت الرياح تضرب قمم التماثيل السرمدية لعصر النهضة، وما زالت أريجها يطوف أرجاء العالم، وتبقى ابتسامة موناليزا المستغيثة ناشدة مجداً شامخاً لفن الرسم والنحت الحديث.

 

Email