ربما تعتبر قمة الدوحة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، واحدة من أهم القمم التي عقدت في تاريخ مجلس التعاون. وهذا ليس فقط لحجم القضايا المطروحة عليها، بل أيضاً لأنها تدشن مرحلة جديدة من التضامن والتكاتف الخليجي، الذي مر بمرحلة صعبة، وتباينات عرقلت من قدرة المجلس وفعاليته.
وفي هذه الخطوة رسالة مهمة، أن الخليجيين ينظرون إلى الأمام، جاعلين من خلافاتهم شيئاً من الماضي، متجهين إلى صفحة جديدة، عنوانها الاتحاد الخليجي. فإذا اعتبرنا التعاون كان المرحلة الأولى، واستغرقت 33 عاماً، فقد حان الوقت للانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة الاتحاد التي ستترجم طموحات شعوب الخليج.
وهناك حقيقة واضحة للمخاطر التي تهدد الكيان الخليجي، فثروة النفط أحضرت معها ضريبتها وأوجدت لها أعداء ومتربصين وحاقدين. وهناك قوى إقليمية ودولية تراقب باهتمام كل تطورات المنطقة، للاستفادة من كل ثغرة في كيانها.
ولكن قادة الخليج أدركوا أنهم في سفينة واحدة، ومن الصعب المغامرة بهذا الكيان الذي يعتبر من المكتسبات التي أنجزها الآباء المؤسسون، وبالتالي فإن أي تفريط في هذا المكتسب هو تفريط في مصير يدفع ثمنه أبناء الخليج، ويرصده التاريخ بكل قسوة.
وإذا كان الخليجيون تجاوزا الأزمة الأصعب في تاريخ كيانهم التعاوني، بمبادرات ذكية ومهمة قادها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأعادت التفاؤل إلى روح هذا الكيان، واختتمت بالزيارة المهمة التي قام بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي للدوحة، والتي أعادت الدفء إلى العلاقات، فإن التحديات الآن قوية وصعبة، وهي ليست فقط خارجية، بل داخلية وحساسة.
وربما النقطة المهمة في هذه التحديات، هي تعزيز الناحية الأمنية لدول المجلس، والانتقال إلى مرحلة الاتحاد الخليجي كخيار يفرض نفسه، ويعزز من قوة وتأثير المجلس دولياً.
فالمتغيرات في الساحة الدولية تفرض انعكاساتها على المنطقة، فالولايات المتحدة تغيرت أولوياتها، ومن الواضح أنها تركز على منطقة الباسفيك، وتتحاشى الغوص في مشاكل منطقتنا. وهناك عودة نشاط الدب الروسي، وتحرك العملاق الصيني، وهذه أيضاً لها انعكاساتها على الساحة الدولية، وعلى منطقة الخليج.
وعلى الصعيد الإقليمي، فإن النفوذ الإيراني والبرنامج النووي، وتوسع دور تركيا كقوة إقليمية في المنطقة، وغياب دول العمق العربي.. جميع هذه العوامل تجعل منطقة الخليج مهددة بشكل مباشر أو غير مباشر، ولذلك لا مجال للخليجيين إلا أن يعززوا ترابطهم السياسي والاقتصادي والعسكري.
وخطوة إنشاء قيادة عسكرية خليجية موحدة، تأتي ضمن هذا السياق، الذي يقود إلى بناء منظومة دفاعية مشتركة، لتحقيق الأمن لدول المجلس، ويصب في مشروع الانتقال إلى الاتحاد. لكن المرحلة تتطلب من الخليجيين أن يكونوا أكثر سرعة في تنفيذ المشاريع وترجمتها إلى واقع، والمبادرة إلى الإطار الوحدوي الذي يبني الأرضية الصلبة لدوله، ويعطي رسالة اطمئنان للداخل والخارج معا.
لقد كشفت التغيرات التي أصابت العالم العربي في الأعوام الثلاثة الأخيرة، خطورة التهديدات الداخلية وتأثيرها في الشعوب وقناعاتها.
فحركات الإسلام السياسي والجماعات الراديكالية، وجدتها فرصة لتحقيق غاياتها في محاولة الوصول للحكم، بما في ذلك الشحن الطائفي الذي استخدم ثورة الاتصال والمعلوماتية لتعميق الشرخ في المجتمعات، بإثارة النعرات الطائفية وتهديد اللحمة الوطنية والاستقرار الاجتماعي.
ولا تقف القضايا عند حد التأثيرات، بل هناك خطر التركيبة السكانية لدول المجلس، فكثير من دول الخليج أصبح مواطنوها أقلية في بلدانهم، وهذا يهدد التركيبة الديموغرافية، ويعرضها لمخاطر داخلية صعبة.
هذه المتغيرات، بعضها أو مجموعها، تمثل خطراً على الاستقرار السياسي لدول الخليج، ومجابتها لا تكون فردية، لأن طبيعة التداخل الخليجي يفرض الحاجة إلى مشروع موحد، والتزام سياسي من صانعي القرار لتطوير منظومة مجلس التعاون إلى الاتحاد.
وفكرة الاتحاد التي اقترحها خادم الحرمين الشريفين في قمة ديسمبر 2013، هي نتاج طبيعي لتطور نوعي في منظومة مجلس التعاون. ويطرح البعض مخاوف من أن الاتحاد سيقلص القرار السيادي للدولة، ولكن التجربة الأوروبية تعطي صورة تبدد هذه المخاوف.
فأوروبا انتقلت إلى الوحدة عبر بوابة الاقتصاد، وتمارس دول أوروبا قراراتها السيادية، ولكنها تنازلت طوعاً عن بعض القرارات لمصلحة المجموع الأوروبي، وهذا هو النضج السياسي، فالمصلحة العامة تفرض على الدول النظر إلى المصالح المشتركة، والفوائد التي ستجنيها استراتيجياً على المدى البعيد.
المشاريع الكبيرة تحتاج إلى قرارات قوية وإرادة سياسية صادقة، والخليج الآن بعد مخاض التجارب السابقة والدروس المستفادة منها، يمكن أن ينتقل إلى العصر الجديد في مسيرته السياسية، وهي النقلة النوعية إلى مشروع الاتحاد، الذي يربط ويحمي مصالحها، ويقوي تأثيرها الإقليمي والدولي.
قمة الدوحة نقطة مفصلية في تاريخ العمل السياسي المشترك لدول مجلس التعاون الخليجي، وحرص القادة على حماية هذا الكيان ونضجهم في تجاوز المعوقات، يعطي رسالة واضحة بأن قمة الدوحة هي نقطة الانطلاق لمستقبل خليجي واحد.