السعادة قضية شغلت الفلاسفة والمفكرين، ودخلت أخيراً إلى قاموس السياسة، وأصبحت عاملاً في تقييم أداء الحكومات. ومنطقياً هي القضية الأهم، فالناتج القومي ومعدلات النمو والدخل الفردي، في محصلتها النهائية ما تهدف إليه هو تحقيق سعادة الإنسان.

وقياس مؤشرات لسعادة الشعوب، هو نقلة نوعية في النظر لتقدم الدول ونجاح الحكومات في مهمتا الأساسية، وهي سعادة الإنسان. والنتائج السنوية التي تعلنها الأمم المتحدة لقياس مؤشرات السعادة والرضى بين الشعوب، هي وسيلة مهمة ليتعرف الناس على موقعهم ووضعهم مقارنة ببقية الشعوب.

ويبدو أن الشعوب الإسكندنافية محسودة على وضعها، فقد احتلت كل الدول الإسكندنافية المراكز الأولى في مؤشرات السعادة، بينما كانت دولة الإمارات العربية المتحدة هي الأولى عربياً، وفي المركز الرابع عشر من بين 165 دولة في العالم.

إن قياس السعادة مهم، لأن الشعوب المحبطة تكون إنتاجيتها ضعيفة والابتكار فيها متراجعاً، وتكون أرضية للتطرف والإرهاب والفقر، في حين أن الاهتمام بالإنسان ينعكس على سعادته، وبالتالي على أدائه وأفكاره وانتمائه.

ورغم وجود عدد من المؤشرات التي تقيس مدى سعادة الإنسان، إلا أن تبني الأمم المتحدة هذه المقاييس وإصدارها السنوي لترتيب دول العالم وفقاً لمعدلات السعادة، هو منظار جديد لتطور نظرة العالم لمعايير التقدم في الدول.

وتتعاون الأمم المتحدة مع مراكز أبحاث وجامعات في العالم لإصدار تقرير التصنيف السنوي، الذي يعتمد على مؤشرات التعليم والاقتصاد والإدارة العامة، والصحة والأمن والعلاقات الاجتماعية الإيجابية، والحرية وريادة الأعمال وتوافر الفرص. وقد اعتمدته الأمم المتحدة في مؤتمر لها في إبريل 2012، واعتمدت منهج القياس بمشاركة دولية وأكاديمية.

وهنا يلاحظ أن المعيار ليس الوفرة المادية كمعدل دخل، فربما في هذه الحالة يختلف التصنيف، ولكن المؤشرات شاملة، وليس بالضرورة من يملك الوفرة المادية يمتلك السعادة. وهذا ليس فقط في الدول، بل حتى في الأفراد، فالأثرياء ليسوا بالضرورة هم أكثر الناس سعادة. بل هناك أفراد دخلهم أقل بكثير، ولكن طريقة حياتهم ونظرتهم الإيجابية تجعلهم أكثر سعادة من غيرهم.

ومن يراجع القائمة يجد أن الدول التي استثمرت في الإنسان، من خلال فتح قنوات التطوير والتعليم وترسيخ مفاهيم الحرية واستقلالية الفرد، هي التي تحقق نتائج ليس فقط على اقتصاد البلد، ولكن على حياة الفرد الشخصية، وعلى علاقاته مع المؤسسات والأفراد الآخرين.

خطط التنمية ومشاريع التطوير والبناء التي لا تنعكس على حياة الإنسان وسعادته، هي هدر لمقدرات البلد دون نتائج فعلية، بينما وضع الإنسان كمحور للتنمية، وإيجاد بيئة محفزة للإبداع والإنتاجية في محيط خال من المحبطات والتهميش والمحسوبية، هو المدخل لسعادة الإنسان.

ويبدو أن هذا المعيار استقطب اهتمام الدول، حتى أن الصين التي تبدو بعيدة عن هذه المعايير، عادت وركزت على مفهوم السعادة للناس، وأصبحت تستخدم الكلمة في بيانات مؤتمرات مجالس نواب الشعب والمؤتمرات السياسية، وأصبح مؤشر السعادة واحداً من المواضيع المطروحة في اجتماعات المؤتمرات الشعبية.

وهنا تبدو دولة الإمارات هي السباقة في مجال ترسيخ أهمية مفهوم السعادة، وهي التي أطلقت مبادرة في دبي لقياس سعادة الجمهور ورضاهم عن الخدمات الحكومية المقدمة لهم.

ويقول الشيخ محمد بن راشد صاحب المبادرة «إن تحقيق السعادة للناس هو غايتنا وخدمتهم هدفنا، ورضاهم هو مقياس نجاحنا، وإن جميع الخطط التنموية التي اعتمدناها والمبادرات التي أطلقناها وجميع السياسات والقوانين الحكومية، تشترك في غاية واحدة نسعى لها، وهي تحقيق السعادة لمواطنينا».

تجربة دبي مهمة في قياس رضى الناس، ويمكن أن تعمم على دول أخرى. فالفائدة المتحققة هي كشف القصور ومعرفة مشاعر الناس الحقيقية، ومن ثم العمل على تلافي السلبيات والتركيز على الإيجابيات، وعمل مقارنات بين نتائج السنوات المختلفة.

والسعادة ليست في الإنجازات المادية والعمرانية، بل حتى في فلسفة التدريس والرسالة التي تصل للمتعلم وتنعكس عليه إيجاباً، وتشارك في ذلك الأسرة والمسجد ووسائل الإعلام. فالأفراد الذين يتعلمون السلام والحب واحترام الآخر وتعزيز القيم والأخلاق والمبادئ، هذه في مجموعها تبني أرضية للإنسان السعيد المتصالح مع نفسه ومع مجتمعه.

وهذه رسالة مهمة لنا في العالم العربي، أن نجعل مؤشرات سعادة الناس هي المقياس لتقييم أداء الحكومات، وأن ترسخ ثقافة الحوار حتى نفهم لماذا نفشل في حين ينجح غيرنا. لماذا تتقلص معدلات السعادة في عالمنا العربي، والدليل أن كل دول ما يسمى «الربيع العربي»، تراجعت في مراكز السعادة لتكون في ذيل القائمة.

القضية ليست فقط مرتبطة بما حدث من تطورات، ولكن في الثقافة الجمعية والتراكمات السلبية، وإذا ما تقاطعت مع أحداث كبيرة فهي تفرز ما هو مختزن في داخل هذه النفوس. لذلك من المهم بناء ثقافة إيجابية في المجتمع، والتشجيع على الفنون والإبداع والابتكار.

فالسعادة هي نتيجة لمعطيات عديدة، وربما قياس المؤشر واحد من الوسائل التي تجعلنا نكشف واقعنا ونتصارح مع أنفسنا. فإحدى مشاكلنا أننا نجهل حقيقة واقعنا، ولكي نبدأ بالحلول لابد أن نقر بوجود الأخطاء.