قمة الرياض.. وماذا بعد؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يوم الأحد الماضي اختار الخليجيون الانحياز لمستقبلهم ومصالح شعوبهم وبناء اتحادهم.. الشعوب الخليجية كانت تترقب اجتماع الرياض بدقائقه الطويلة، ليثبت زعماء الخليج أنهم على حجم المسؤولية، وأنهم يرتقون بخليجهم إلى مستوى طموحات شعوبهم.

كان اجتماع الرياض حاسماً ما بين انفلات حبات المسبحة وفشل المنظومة، أو العودة بقطار التعاون الخليجي إلى سكته والسير بثقة لمستقبل واثق قوي وواضح. تفاصيل كثيرة سبقت هذا اللقاء، ومبادرات متعددة واكبت هذا الاجتماع.

لم يكن هناك أي استعداد للتضحية بإنجاز صنعه الآباء، ليخسره الأبناء. بل كان حس المسؤولية والانتماء والرؤية العقلانية، هي التي قادت هذا المركب في ظروف صعبة، لا تتحمل أي هزات أو عداوات تضعف هذا الكيان وتعطي فرصة للأعداء والمتربصين والحاقدين، لاستغلال الثغرات والفجوات والدخول في المساحات الضيقة للاستفادة من مبدأ الانتهازية.

نجاح قمة الرياض الأخيرة هو نقطة فاصلة في تاريخ العمل الخليجي المشترك، ولكنه نجاح ليس عاطفياً بل واقعي ومتزن.

ولذلك يلاحظ في البيان الذي صدر بعد اجتماع القادة الأحد 16 نوفمبر في الرياض، واختيرت عباراته بعناية، أنه «تم التوصل إلى اتفاق الرياض التكميلي»، وهي إشارة إلى التزامات الاتفاقية السابقة التي كانت في اتفاق الرياض السابق في 17 أبريل الماضي الذي ألزم الدول الخليجية جمعاء بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي منها بشكل مباشر أو غير مباشر.

كما نص على عدم دعم من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس، من منظمات أو أفراد، سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي، وتضمن أيضاً عدم دعم الإعلام المعادي.

وبالتالي هي ليست اتفاقية جديدة في مفهومها، بل تكميلية لما تم الاتفاق عليه، أي بمعنى أوضح؛ الالتزام بما تم في التعهدات السابقة.

وهذه الخطوة التي تنتج عنها عودة سفراء السعودية والإمارات والبحرين إلى الدوحة، هي ربما بداية لمرحلة جديدة في العمل الخليجي المشترك. ودعا البيان إلى مضاعفة الجهود والتكاتف لحماية الأمن والاستقرار فيها، وكان البيان محقاً تماماً في عبارته هذه، التي ربما تستخدم كثيراً في بيانات عدة، ولكنها في الوضع الحالي ومع المعطيات الموجودة، تعني تماماً مفرداتها وتعكس حقيقة موجودة على الأرض.

الخليجيون يمارسون السياسة ويمزجونها بالأعراف والقيم والمبادئ وهم في اللحظات الصعبة، يتخذون القرارات الصائبة مهما كانت المشاكل والتباينات. ففي نهاية المطاف يدركون أن مصيرهم واحد، وأن أي عطب في هذه المسيرة سيدفع ثمنه الجميع في حسابات مصيرية.

إنجازات وخيرات دول الخليج هي لأبناء الخليج، وليست هناك مساحة لدخول أطراف للعب في المساحات الضيقة. من المؤسف أن التباين السياسي الخليجي أثار قريحة كثيرين يجاملون دول الخليج، ولكنهم يضمرون العكس، واعتبروها مساحة للاستفادة واقتناص الفوائد.

والخلاف السياسي لم يكن يشغل فقط أبناء دول الخليج، بل كان يتابع من عواصم صناعة القرار في العالم، فالخليج ذو أهمية استراتيجية واقتصادية تتجاوز الإطار الإقليمي، حتى إن صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية قالت إن أي تصدع في منظومة دول الخليج، هو بمثابة تهديد لدول العالم وخطر على أمن النفط أكثر من خطر داعش، وأن استقرار الاقتصاد العالمي يرتبط بالاستقرار في دول الخليج.

ومجلس التعاون، رغم كل التصدعات التي حصلت داخله، مازال حتى الآن هو المؤسسة الأكثر تأثيراً في فضاء السياسة العربية.

ويأخذ أهمية في المرحلة المقبلة، في ظل غياب العمل العربي المشترك، ووجود فراغ واضح أعطى فرصة لدول الجوار كي تتمدد سياسياً في قضايا عربية. فالغياب الواضح لمراكز ثقل رئيسة في العالم العربي، أثر في العمل السياسي العربي، وأفقد المصالح والقضايا العربية الدعم والأرضية المساندة.

دول الخليج تواجه تحديات هائلة، سواء خارجية أو داخلية. ومنظومة مجلس التعاون هي مرجعية تحمي هذه الدول، وتضع الحد الأدنى من التفاهم السياسي والاستراتيجي.

ويظل مشروع الاتحاد هدفاً مهماً تسعى إليه دول الخليج. فما حصل من خلافات سياسية، أوضح بشكل قاطع أن الخليجين يحتاجون إلى أن يصعدوا بمنظومتهم التعاونية إلى مشروعهم الاتحادي.

وهو المشروع الذي يسمح بالتعددية والمحافظة على الكيانات السيادية، لكنه يربط القرار السياسي والاقتصادي بالمصالح المشتركة، بحيث يكون الصوت الخليجي قوياً ومؤثراً، وينعكس على أبنائه.

فالخليج لم يعد تلك الصورة النمطية من صحراء وبئر نفط، بل هو تنمية حقيقية جوهرها الإنسان ومصيرها واحد. لقد استطاعت دول الخليج أن تصنع هذه الصورة الجديدة، ومن المهم المحافظة عليها.

ما ينتظره الخليجيون اليوم ليس فقط المصالحة وعودة السفراء، بل العمل الخليجي المشترك، وتفعيل الاتفاقيات للسوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي، وإكمال مشاريع ربط السكك الحديدية والكهرباء، وتعزيز المواطنة الاقتصادية، وتحرير عناصر الإنتاج والاستثمار بين دول المجلس.

الخليجيون مطالبون بالسرعة، فالوقت لا يرحم، وما اتفاقية الرياض إلا بداية لما بعد ذلك. فالدروس التي تعلمناها من المرحلة الماضية، تقول إن الخليج قوي بتلاحمه وتضامنه ووحدته، وإن القرار الخليجي يصنعه فقط أبناء الخليج.

 

Email