هل تكون الثورة الثالثة من تونس؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تونس التي تثير ضوضاء في هدوئها وغموضها.. ومن كان يتخيل أن ثورة تونس التي أطلق عليها ثورة الياسمين، أشعلت المنطقة بثورات واضطرابات؟ والكل يتساءل هل كل هذا يحدث من البوعزيزي بائع الخضار البسيط الذي انتفض لكرامته في لحظة، وكأن الشعوب تنتظر لحظة الانطلاق فقامت تونس من لحظتها ولم تهدأ حتى الآن؟! والثورات تغير مسار الشعوب، فيمكن أن نطلق اسم الثورة الأولى ونقصد بها الثورات التي حصلت ضد الاستعمار وضد الأنظمة الموالية، وهي الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية عندما تسيد العسكر الحكم في كثير من الدول العربية، وخرج المستعمر مطروداً.

وامتزجت تلك المرحلة بالأحلام الكبيرة والمصطلحات الضخمة، من محاربة الإمبريالية والعدو، إلى شعارات الوحدة العربية، والحديث عن العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، لتكتشف بعدها الشعوب أن الأحلام شيء والواقع شيء.

فالعسكر الذين وصلوا للحكم لم يكن في أجندتهم إلا ضمان استمرار حكمهم، ومحاربة من تسول له نفسه التفكير في الاقتراب من كرسي الحكم. وبدلاً من أن تتحقق العدالة الاجتماعية وتنمية الانسان، أصبح طموح المواطن العربي في الحصول على فيزا لدخول الدول المتقدمة، لأنه في بلده محروم من الخدمات والحقوق.

شعارات عاش عليها العرب كثيراً، وتغنى بها الكتاب والشعراء، ليذهب هذا كله هباء عند الكشف عند معدلات التنمية ومعدلات البطالة. والأرقام صوتها أعلى، فما تحقق هو عسكرة الدولة على حساب التنمية المدنية، فيما تحولت أنظمة جمهورية إلى «جمهولكية»، من خلال توريث الحكم وتعزيز سيطرة الحزب الواحد، وتعيين المسؤول حسب ولائه وليس بناء على كفاءته. ولذلك كانت صرخة البوعزيزي هي ضد أوهام الثورة الأولى بكل ما فيها من مفاسد وظلم وحرمان، وانطلقت الثورة التي يمكن تسميتها الثورة الثانية، ضد هذه الأنظمة التي فشلت في تحقيق التنمية والعدالة للإنسان، وهاجت الشعوب وسقط نظام خلف نظام، وخرجت الشعوب تطالب بكرامتها وحريتها.

من ثورة تونس انطلقت الشرارة إلى دول عربية عديدة، وشهد العالم في 2011 قصة أشبه بالخيال، فثورة تكتمل هنا لتبدأ في بلد آخر، وترقب العالم النتائج فكانت مخيبة للآمال.

واستطاعت حركات الإسلام السياسي أن تختطف مكتسبات الثورة، ووصلت للسلطة حلمها المزمن، وبعد وصولها للجائزة الكبرى وهي السلطة، سعت لتعزيز مكاسبها وترسيخ وجودها كسلطة حاكمة، في محاولة سريعة لاختصار الزمن.

ولم يكن ركوب صهوة الحكم بهذه السهولة، فإدارة الدولة وإيجاد آلاف فرص العمل وتطوير البنية الأساسية، تتطلب جهداً وخطة واستثمارات هائلة. وأجمل ما في المعارضة أنك لا تمارس السلطة، وبالتالي فالانتقاد أسهل من العمل.

وعندما حانت لحظة الحقيقة شعر الناس بأن أوضاعهم أسوأ، حتى أن بعضهم ترحم على الأنظمة السابقة. وبدلاً من أن تعالج المشكلة، هربت بالدخول في الحديث عن المؤامرات والمخططات.

وبعد سنتين من الحكم اضطرت «النهضة»، النسخة التونسية للإسلام السياسي، للتعامل مع الواقع، ورضخت لضغط قوى المجتمع المدني وتنازلت عن حكم «الترويكا»، لتتشكل حكومة تكنوقراط تدير البلد حتى وقت الانتخابات.

وتحسب لتونس قدرتها في تجاوز أزمة كبيرة، خاصة بعد العمليات الإرهابية وعمليات الاغتيال التي ذهب ضحيتها أسماء مهمة، مثل شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ولكن رغم ذلك كان الإرث التعليمي والثقافي الموجود لدى الشعب التونسي، هو صمام الأمان الذي حمى البلد من الانزلاق إلى حروب داخلية ونزاعات على السلطة.

ويحسب للبورقيبية، إذا صحت التسمية نسبة إلى الحبيب بورقية، إيجاد مستوى تعليمي متقدم وانفتاح داخلي، وهو الامر الذي استطاع أن يقود تونس في المراحل الصعبة. فلم نشهد انحرافات للثورة كما شهدتها الدول المجاورة، كما كانت الخدمات والإدارة في تونس مستقرة، رغم التغييرات السياسية الحادة.

وهذا يفتح الأمل لمستقبل تونس بعد تجاوزها فترة المخاض الصعبة، والأهم إنجازها بالمصادقة على الدستور. تطبيق خارطة الطريق بدأ، فبعد أن تمت الانتخابات التشريعية ستكون الانتخابات الرئاسية المقررة نهاية الشهر المقبل، وهي رسالة أمل بأن تونس ترسم مستقبلها وتضع بصمتها الخاصة.

ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة الثورة الثالثة، التي تنهي المرحلة الانتقالية وتحسم القرارات الصعبة، حيث أعطى الدستور سلطة واسعة للبرلمان وسلطات محدودة للرئاسة.

الثورة الثالثة هي مرحلة النضوج في تاريخ المسار السياسي التونسي، الذي ينتظر أن يدشن مرحلة الاستقرار والتنمية، وتقديم صورة حضارية عن المجتمع التونسي. هناك رهان على أن هذه الانتخابات ربما واحدة من الانتخابات المصيرية في المرحلة الراهنة، لأنها تعطي مؤشرات للمرحلة المقبلة على المستوى الإقليمي. وكما كانت تونس هي المبادرة في إشعال فتيل الثورة الثانية في العالم العربي، فربما تكون هي الرائدة في تجاوز مخاض هذه الثورة بكل صعوباتها، في ثورة ثالثة تختلف في الأسلوب والمضمون.

ثورة شعب يمارس التغيير من خلال صندوق الانتخاب، ويختار المضمون الأفضل لمستقبل البلد، المبني على نتائج فعلية على الأرض، وليس على الشعارات أو استخدام عاطفة الدين للوصول إلى أهداف سياسية.

تونس هذا البلد الصغير في مساحته وعدد سكانه، الكبير في طموحاته وإرادة أبنائه، يسجل تاريخاً جديداً للمنطقة، تكون اللغة فيه للمنطق والعقلانية السياسية، وتنحاز فيه سلطة وشعباً لمشروع التنمية وسعادة الإنسان.. هذا مشروع تونس الجديدة، وهو إنجاز مستحق لبلد يرسم مستقبله بنفسه ويصنع التاريخ لأجياله.

Email