اتفاق غزة ومخاطر فشل التهدئة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في 26 أغسطس المنصرم، أعلنت مصر عن الوصول إلى اتفاق لوقف حرب إسرائيل التدميرية على غزة. وعلى الفور، أقيمت احتفالات واسعة في شوارع غزة، تعبيراً عن انتصار شعبها وصمود مقاومتها، بعد مرور خمسين يوماً على حرب تدميرية ذهب ضحيتها أكثر من 2150 شهيداً فلسطينياً، بينهم عدد كبير من الأطفال، وأكثر من عشرة آلاف جريح معظمهم من المدنيين.

تضمن الاتفاق خطوات فورية لوقف صواريخ المقاومة على إسرائيل، مقابل وقف عملياتها العسكرية وضرباتها الجوية على غزة، وموافقتها على فتح المعابر الحدودية معها، والسماح بمرور البضائع والمعونات الإنسانية ومعدات إعادة الإعمار.

وأطلقت الوعود بتقليص المنطقة الأمنية العازلة مع قطاع غزة، لتمكين الفلسطينيين من الوصول إلى مزيد من أراضيهم الزراعية، وتوسيع مجال الصيد البحري لهم قبالة ساحل غزة إلى ستة أميال بدلاً من ثلاثة، وفي حال صمدت الهدنة، يمكن توسيعه إلى اثني عشر ميلاً بحرياً، وفق القانون الدولي للبحار.

وإلى جانب التدابير الفورية، تم إرجاء الحلول العملية للقضايا الأساسية العالقة بين الجانبين إلى مفاوضات لاحقة برعاية مصرية.

وتصر المقاومة على بناء ميناء بحري في غزة، يسمح بنقل البضائع والركاب مباشرة إلى القطاع ومنه، والإفراج عن الأموال التي تصادرها إسرائيل لدفع أجور أربعين ألفاً من رجال الشرطة والموظفين الحكوميين وغيرهم من العاملين الإداريين، الذين لم يتقاضوا أي أجر منذ أواخر 2013، وإعادة بناء مطار ياسر عرفات في غزة الذي افتتح عام 1998، ثم قصفته إسرائيل فأغلق عام 2000.

لا شك في أن الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، أعطى ثماراً إيجابية بدأت بتنفيذ الحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين، كفتح المعابر والصيد البحري تمهيداً لإعادة الإعمار. لكن القضايا الأساسية العالقة لم تتبدل، وليس هناك ما يشير إلى احترام إسرائيل لحدود غزة الجغرافية، وإيقاف أعمالها العدوانية ضد السكان، وخاصة تنفيذ الاغتيالات داخلها.

ولم يتضمن الاتفاق أي إشارة حول نزع سلاح المقاومة في غزة، والذي تعتبره إسرائيل شرطاً أساسياً لاستمرار التهدئة واستئناف المفاوضات لحل بعض القضايا الاستراتيجية خلال شهر، وتكليف حكومة التوافق الوطني الفلسطينية بمهمات إعادة الإعمار.

وذلك يطرح علامات استفهام كبيرة حول مدى جدية إسرائيل في تقديم تنازلات جذرية لصالح المقاومة الفلسطينية، التي تصر على الاحتفاظ بسلاحها ومشاركتها المباشرة في إعمار غزة.

ومرد ذلك إلى المواقف المتناقضة داخل إسرائيل، فهناك تيار يدعم الحكومة التي أكدت أن المقاومة لم تحصل على الميناء ولا المطار، وأنها قبلت بالاتفاق رغماً عنها بسبب ضغوط عربية ودولية. وفي المقابل، برز تيار قوي يعتبر أن الاتفاق يشكل هزيمة كبيرة لإسرائيل، لأن حكومة نتنياهو أجبرت على التخلي عن قرار الحسم العسكري والقبول بالهدنة.

ونشرت دراسات إسرائيلية عدة تؤكد أن حكومة إسرائيل خسرت الرهان على تصفية المقاومة في غزة، تمهيداً لتصفيتها في لبنان، وعليها أن تراجع استراتيجيتها في استخدام العنف المفرط والتدمير الشامل، لأن المقاومة في غزة ولبنان تمتلك عقيدة قتالية صلبة، وثقافة وطنية، وقدرة عملانية متنامية لمواجهة الجيش الإسرائيلي ومنعه من تحقيق أهدافه.

لقد نجحت المقاومة فعلاً في زعزعة الأمن والاستقرار داخل إسرائيل في مجالات عدة، ورغم أنها تلقت ضربة عسكرية قاسية في غزة، إلا أنها جرت إسرائيل إلى معركة طويلة بتكلفة باهظة في المجالين العسكري والاقتصادي، وأثبتت عجز جيشها عن تدمير ركائز القوة لدى المقاومة خلال خمسين يوماً، كانت فيها أراضي إسرائيل وتجمعات سكانها عرضة لهجمات صاروخية استمرت بوتيرة عالية حتى اليوم الأخير، فضعفت معنويات سكان المستوطنات القريبة من غزة، حين استمرت المقاومة تخوض المعركة العسكرية حتى اليوم الأخير بكفاءة عالية.

وبعد أن رسخت المقاومة وحدة فصائلها على أرض المعركة، كسبت مصر إلى جانبها في عملية التفاوض لوقف إطلاق النار، وإلزام إسرائيل بقبول مطالب عدة تقدمت بها المقاومة، وحصلت عليها بفعل وحدتها وصمودها.

وتندرج معركة غزة ضمن مسيرة صراع تاريخي طويل مع العدو الصهيوني، وبات واضحاً أن صمود المقاومة يشكل مدخلاً فعلياً لتحقيق المزيد من الانتصارات المهمة.

وذلك يتطلب بذل المزيد من الجهود للحفاظ على وحدة المقاومة، وفتح المعابر التي تشكل شرياناً حيوياً للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، ولإعادة إعمارها، وتصليب مقاومتها.

وأكد صمود غزة على ضرورة تمسك المقاومة بسلاحها، ورفضها إدراجه بنداً على جدول المفاوضات. لكن إسرائيل أطلقت حرباً مفتوحة لتدمير المقاومة التي ردت بإثبات وحدتها في الدفاع عن شعبها، وفاجأت العالم بقدراتها العسكرية، وبالتفاف الشعب الفلسطيني حولها.

وفشلت إسرائيل في الاستفراد بفصيل معين، لأن جميع فصائل المقاومة شاركت في المعركة، وأدركت منذ اللحظة الأولى، أن حرب إسرائيل هي ضد الشعب الفلسطيني بكل فصائله، وليست ضد حماس وحدها.

وأثبتت وحدة المقاومة كفاءة عالية في إدارة معركة طويلة، وضرب عمق المدن والمناطق الإسرائيلية، وكشفت مرة أخرى زيف أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فكان على إسرائيل القبول مؤقتاً ببعض شروط المقاومة عندما فشل جيشها في كسب المعركة العسكرية.

 وتحددت البوصلة الفلسطينية في مسارها الصحيح نحو المستقبل. فهل يتم تحصين صمود غزة في زمن التهدئة المؤقتة، أم تضيع تضحيات شعبها مجدداً عبر تفجير الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية في إطار أجندات إقليمية ودولية؟

 

Email