«داعش» والسؤال الذي يتجاهله «الفضائيون»

ت + ت - الحجم الطبيعي

هكذا وبشكل أقرب للإجماع، أدينت «داعش» باعتبارها نبتة شيطانية ظهرت فجأة دون مقدمات. أدان رموز كل التيارات الإسلامية، من سلفيين وغيرهم، هذا التنظيم وممارساته، وأجمعوا على أنه لا يمثل الإسلام.

وامتدت الإدانة إلى الوعي الشعبي، وأصحاب تلك الرسائل التي تنهمر على هواتفنا كل يوم يقرعون فيها رؤوسنا بمقولات شيوخ الفضائيات الذين لا يكلون عن التذكير والدعوة للجهاد في كل مكان، أصبحوا فجأة يدينون «داعش»: نبتة شيطانية لا تمثل الإسلام، بل ويزيد البعض بالقول إنه من صنع أجهزة المخابرات.

لكن عندما شاهدت ذلك المشهد المقزز لقتل أول رهينة من الصحافيين الأجانب، لفت نظري تفصيل صغير نسيه الكثيرون ممن كتب في غمرة اللهاث (مفردة غير ملطفة لوصف من يفكر يوماً بيوم دون ذاكرة ودون استقراء للمستقبل)، عن ذلك المشهد.

استوقفني ذلك اللباس الذي ظهر به الرهينة قبل مقتله ولونه البرتقالي الفاقع، وتذكرت من فوري أنني شاهدت نفس اللون ونفس البدلة في عام 2004، في عملية نحر رهينة أميركي بالوحشية نفسها، في مشهد مصور قيل إنه لأبو مصعب الزرقاوي ينحر الرهينة الأميركي نيكولاس بيرغ. هل تذكرون ذلك المشهد؟ أشك في ذلك.

اللون البرتقالي لا يعني أن جماعة «داعش» استلفوا البدلة من مغسلة ثياب جماعة الزرقاوي، بل ان اختيار اللون مقصود لإحداث الأثر المطلوب لعملية قتل مقززة، يراد لها أن تكون علنية ومصورة وموثقة، وكأنها عرض مجاني للوحشية، ويراد لها أن تنتشر بأكثر الوسائل فعالية. العبرة هنا: «الأسلوب ونمط التفكير هو نفسه».

وفي عام 2004، عندما نحر من قيل إنه الزرقاوي، تساءلت عن هذا الصفاء الذهني الذي يعطي أعضاء تنظيم «جهادي» مسلح، متسعاً من الوقت والمزاج للمفاضلة بين الألوان واختيار لون فاقع لضحية سينحر أمام الكاميرا بعد قليل؟ لكن التساؤل المفقود في مشهد عام 2004 ومشهد 2014، هو عن سبب علانية المشهد، ولماذا يراد له أن يكون مصوراً وموثقاً؟ أبسط جواب هو؛ لكي يتم تداوله.

والسؤال اللاحق: لماذا؟ لعل هذا جدير بأن يعيدنا إلى تذكر حقيقة أخرى، متعلقة بما يقال إنه خلاف كان بين جماعة الزرقاوي وبين تنظيم القاعدة الأم. فالخلاف كان حول الأولويات: ففيما رأى تنظيم القاعدة وزعيمه وقتذاك، أن الأولوية هي قتال الأميركيين، اعتبر الزرقاوي أن الأولوية هي قتال الشيعة باعتبارهم «أعوان الاحتلال».

هكذا جرى استهداف الشيعة بالسيارات المفخخة والانتحاريين، منذ أن احتل الأميركيون العراق. وثمة لوازم أخرى لكي يكتمل خطاب تحريض الزرقاوي بكلمات سحرية المفعول: «الصليبيون» و«الرافضة».

وقتذاك، هلل هؤلاء الذين جاؤوا اليوم ليقولوا لنا، وكأنهم قد اكتشفوا قانون الجاذبية، إن «داعش» صنيعة المخابرات. وقتذاك كانوا قد أشاحوا عن تحذير يستند إلى منطق التحليل العقلي: هذا الاستهداف مقصده إشعال حرب أهلية.

لكن في غمرة اللهاث والتشفي على طريقة نزاعات بلطجية الحارات، واصلوا تهليلهم واستخفوا بكل تحذير، وواصلوا حث الناس على الجهاد في أرض الرافدين.

نسي هؤلاء اللاهثون أن الصلة الوحيدة للزرقاوي بالعالم وقتذاك، كانت بيانات مكتوبة وتسجيلات صوتية، لكن الأهم أن إثبات صحتها من عدمه كان يأتي على الدوام من المتحدث باسم الجيش الأميركي، أي أن الجيش الأميركي تحول إلى مؤسسة علاقات عامة للزرقاوي، يثبت أو ينفي صحة بياناته وتسجيلاته الصوتية، لتأتي وكالات الأنباء العالمية الرصينة لتنقل ما أعلنه الجيش الأميركي، لكي تصل رسالة الزرقاوي للعالم واضحة لا لبس فيها.

ونسي هؤلاء شيئاً من الاستدلال العقلي: حساب العمليات التي قامت بها جماعة الزرقاوي ضد العراقيين، والعمليات التي قاموا بها ضد الجيش الأميركي. لعل هذا جدير بأن يعيدنا لخلاف الأولويات ذاك بين الزرقاوي وقادة تنظيم القاعدة الأم، حول أولوية المعركة: «الصليبيون» أم «الرافضة»!

وعندما نسف تنظيم «داعش» قبر النبي يونس في الموصل، كان حرياً بمن هلل للزرقاوي وحربه ضد «الرافضة»، أن يتذكر على الفور تلك الضجة التي جرت في مارس 2001، عندما أصرت حركة طالبان على تفجير تمثالي بوذا في منطقة باميان، طالبان وإمارتها «الإسلامية» التي اعتبرت جنة الإسلام الحق وقصدها المجاهدون من كل مكان.

لقد استغرب من هلل للزرقاوي (لاحقاً) كل هذه الضجة من أجل تمثالين من الحجر، وتساءلوا بغباء ألصق بنا نحن المسلمين: أمِن أجل صنمين من الحجر يثور العالم؟ لون ثياب الرهائن الفاقع، وتفجير المراقد والتماثيل، ليس استنتاجاً في رواية مسلية، لكن خلفه ذهنية وإرثا وثقافة رائجة، وخلفها يكمن سؤال لم يجب عنه مشايخ الفضائيات ودعاة الجهاد الذين يجهرون اليوم بإدانة «داعش» (وكأنهم اكتشفوا معادلة أرخميدس): إذا كان «داعش» صنيعة المخابرات ولا يمثل الإسلام، فلماذا يحرضون شبابنا للتطوع والقتال في صفوفه بكل لهفة وشوق؟

 

Email