فجر الدماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

التاريخ: العشر الأواخر- رمضان 1414 هجري

المكان: الحرم الإبراهيمي - مدينة الخليل

طفق المصلون يتوافدون إلى مسجد الخليل تباعاً لأداء صلاة الفجر بعدما أمسك كل واحد منهم عن الطعام والشراب، وبدأ صيامه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون العظيم ومنشئ الخلق، بدأ صيامه طلباً لمرضاة البارئ وطمعاً في الحصول على الأجر والثواب وتلبية لنداء الخالق.

بدأت الصفوف تكتمل وكل يعتدل في وضعه وبدأ الإمام بتكبيرة الإحرام وبدأت الصلاة، هذه العبادة المهمة والفاصلة بين الأيمان والشرك، هذه العبادة التي تمثل القناة المباشرة بين العبد وخالقه، القناة التي يرسل فيها العبد عبوديته وإخلاصه وإقراره بوحدانية الخالق وعظمته.

في أثناء هذا الجو الروحاني البعيد عن مشكلات الدنيا وآلامها ومتاعبها، في هذه اللحظات التي تسمو فيها الروح فوق متطلبات الجسد وحقارة الدنيا، أخذ الشيطان المتمثل في هذا العدو الصهيوني السفاح، هذا الإنسان الذي تجرد من إنسانيته ولبس ملابس الحيوان.

وتبرأ من جميع القيم والمبادئ والعواطف الإنسانية، وأنى لهذه القيم أن توجد في هذا المسخ الحقير، بدأ بتنفيذ جريمته النكراء، هذه الجريمة التي أساسها الغدر والخيانة وهيكلها الحقد والحسد والكراهية العمياء.

فدخل إلى الحرم وتحت أنظار رفاقه الذين يشاركونه في خسته وغدره، دخل إلى جموع المصلين الغارقين في تسبيح الله وتمجيده، وأخرج سلاحه المتطور الذي يستطيع إطلاق كمية من الرصاص في أقل وقت ممكن، ثم ماذا؟ لا أستطيع أن أكمل، فالقلم لا يستطيع وصف ما حدث بعد ذلك، أخذ الرصاص ينطلق من البندقية وعلى من؟ على جموع المؤمنين ونفوسهم. هؤلاء القانتون الساجدون لربهم.

أخذ الرصاص يحصدهم كما يحصد الجزار الخراف. يا إلهي، يا الله، أهكذا يذبح المسلمون كالخراف؟ أهكذا تستباح دماء المسلمين التي قال فيها الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، ما معناه أن العرش ليهتز من استباحة دم مسلم بريء!

التاريخ: العشر الأواخر- رمضان 1435 هجري

المكان: حي الشجاعية ــ غزة

مع بزوغ الفجر انطلقت مجموعة من الأطفال بكل براءة وعفوية إلى حي الشجاعية للعب في ما تبقى من ركام المراجيح.

فالحرب قد بدأت أوزارها وأمسى قطاع غزة بأكمله تحت القصف. بدأ الأطفال في الاصطفاف أمام المرجوحة بكل شوق وحماس وكأني بهم يقومون بالبروفة الأخيرة قبل العيد. فما هي إلا أيام قليلة بقت على انتهاء شهر الرحمة والمغفرة وبداية موسم الفرحة والبهجة.

حينها سيقوم كل طفل بالتباهي أمام أقرانه في قيادة المرجوحة والوصول بها إلى عنان السماء. ما أشبه البارحة باليوم، عشرون سنة ونيف مضت ومازالت ذكرى حادثة اليهودي المسخ حاضرة في الأذهان.

وبينما الكبار يذكرون تفاصيل الحادثة ويدعون العلي القدير أن يحفظ عيالهم وفلذات أكبادهم فجأة ومن دون سابق إنذار توقف الزمن وتسمرت الوجوه، تلبدت السماء بغيوم مدفعية العدو وحجبت شمس الحقيقة وبدأت القذائف تنهمر كالسيل العرم من كل حدب وصوب.

تغير لون الفجر بدماء الأطفال، وغدت أجسامهم تتراقص بين الرصاص، وأصبح حي الشجاعية مسرحاً لمجزرة أخرى راح ضحيتها هذه المرة صغار لاحول لهم ولا قوة.

وبينما اندفعت الأمهات الثكالى إلى وسط الحي لإنقاذ ما تبقى، أطلق العدو الصهيوني الغاشم دفعة ثانية من القذائف، معلناً للعالم أنه لا يفهم إلا لغة الموت. هدأت الأصوات وسكنت النفوس وانكشف الغبار.

في زاوية اختلطت أشلاء أم بولدها وفي زاوية أخرى غطت دماء طفل جسد أمه، مسطرين بذلك ملحمة أخرى من ملاحم البطولة والشجاعة جاعلين من حي الشجاعية خالداً ليوم الدين. ماذا عساي أن أقول؟ فبعد مرور عقدين من الزمان مازال البشر يعيشون الجاهلية المتطورة ومازالت الأشلاء تتساقط والدماء تنهمر وبين هذا وذاك يغط الضمير الدولي في سبات عميق وغيبوبة أبدية!!

 

اختصاصي طب الأسرة والصحة المهنية

Email