الجلاد مأزوم فلا تسعفوه

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع نشأة السلطة الفلسطينية عام 1994، نشأت معادلة تقوم على خيارين أمام الفلسطينيين، الأول: المضي قدماً في عملية شاقة ومعقدة وطويلة لبناء دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967. والثاني: الاحتفاظ بالحدود الممكنة من القدرة على الردع تجاه إسرائيل.

كلا الخيارين صحيح ومشروع، وبقدر ما يرغب كل فلسطيني في أن يعيش بسلام (بالمعنى الأشمل للكلمة) في وطنه مثل أي شعب آخر، فإن من حقه أيضاً امتلاك وسائل الدفاع عن نفسه وأرضه، باعتباره حقاً مشروعا لكل شعب أيضاً. لكن أسوأ ما في اتفاق أوسلو هو أنه مرحلي، وعليه فإن بناء الدولة أو حتى جلاء الاحتلال الكامل ليس أمراً باليد، بل يتطلب نضالاً شرساً يفوق في متطلباته كل مراحل النضال السابقة.

وطالما أن بناء الدولة ليس أمرا اختيارياً بل نضال شاق ودؤوب وسط تواطؤ دولي يقترب من المؤامرة، فإن إرغام إسرائيل على تقديم أي استحقاق هنا، سواء بموجب اتفاق أوسلو أو بموجب القرارات الدولية، لن يكون ممكنا إلا بما تفرضه نضالات الفلسطينيين على كل الأصعدة. بمعنى أن على الفلسطينيين أن يمسكوا بكل الخيارات الممكنة..

وليس المفاضلة بينها. لكن إذا كانت تجربة السنوات العشرين السابقة قد أثبتت شيئاً، فهو أمر واحد: الفلسطينيون لن يحصلوا على الدولة المأمولة على حدود 1967 عبر المفاوضات الثنائية مع إسرائيل، كما أنهم بحاجة إلى قدرات للردع وحماية أنفسهم.

هل يعني هذا توقف النضال لبناء الدولة؟ وهل يعني بناء الدولة التسليم بالشروط المفروضة في اوسلو حول تسليح قوات السلطة الفلسطينية؟ قطعاً لا. لكن المشكلة هي أن هذين الخيارين أصبحا وكأن أحدهما بديل للآخر، في حين أن المفترض أن يكونا منسجمين معا. ففي نضال كالذي يخوضه الشعب الفلسطيني، يفرض المنطق قبل السياسة والايديولوجيا أن يملك الشعب وقيادته أكبر قدر من الخيارات.

هذا هو التفسير الذي يقدمه التاريخ عندما يتعلق الأمر بنضال شعب من أجل التحرر وبناء دولة. من يفاضل بين أي من هذين الخيارين على طريقة «إما هذا وإما هذا» مخطئ بالتأكيد، لأن هذا منطق عدمي لا يقود إلى أي نتيجة، لا لبناء دولة ولا لامتلاك الحد الممكن والضروري للدفاع عن الأرض والشعب.

إن الدولة الفلسطينية المنشودة ليست وليدة اتفاق أوسلو، بل هي هدف ناضلت من أجله أجيال متعاقبة منذ البدايات الأولى لنضال الشعب الفلسطيني. فمن حكومة عموم فلسطين التي أعلنت في 1948 وترأسها أحمد حلمي عبد الباقي، إلى إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988، تمثل الدولة الفلسطينية الهدف الاستراتيجي للنضال الفلسطيني. لكن هذه الدولة لن تنبت هكذا فجأة بل يتعين بناؤها..

ولا يمكن أن تكون دون أي قدر من الحماية أو القدرة على الدفاع عن الارض والشعب، لهذا فإن امتلاك الحدود الممكنة من القدرة على الردع والدفاع عن النفس، أمر لا غنى عنه أيضاً. لكن، لماذا يبدو الوضع الفلسطيني دوما كأنه مفاضلة بين خيار بناء الدولة وخيار المقاومة؟ لماذا لا يحسب بناء الدولة باعتباره خيار مقاومة أيضاً لشعب يناضل من أجل الاستقلال وتحرير أرضه؟

كل الفصائل الفلسطينية بما فيها حماس، وافقت في حواراتها الداخلية منذ عام 2006 على أن الهدف الاستراتيجي الفلسطيني هو دولة فلسطينية على حدود 1967، فلماذا يطرح الأمر دوما على شكل مفاضلة على طريقة إما هذا وإما ذاك؟

الحق على هذه الذاكرة القصيرة وهذه العقلية التي لا تعيش إلا لحظتها ولا تقرأ تاريخاً، فالصهاينة أنفسهم كانوا قبل عام 1948 قد وضعوا كل مؤسسات «دولتهم المستقبلية»، فيما كانت عصاباتهم وميليشياتهم المسلحة توالي ارتكاب المجازر ضد الشعب الفلسطيني، المزارع الجماعية، مؤسسات التجسس التي بدأوها منذ العشرينات، الميليشيات التي شكلت نواة جيشهم...

وكالة الهجرة، المؤسسات السياسية وغيرها. لماذا يبدو مثل هذا المسعى منكراً حتى من قبل بعض الفلسطينيين الذين يضعون الأمر دوماً ضمن معادلة «إما هذا وإما هذا»؟ فتحت وطأة كل عدوان إسرائيلي، يملك بعض العرب للأسف «قاموساً تحويلياً» للحقائق والضرورات، يحيل وطأة هذه الحرب إلى حالة سلبية للغاية، بل ومدمرة على المدى البعيد، عندما يحولون معاناة الناس وأهوال الحرب إلى لعنات لبعضهم البعض، بمنطق «عدمي» لا يفعل سوى أن يكرس حالة هذيان جماعي وجلد للذات.

كل ما يفعله هو تكريس حالة الاحتراب الداخلي، وتوفير كل ما تحتاجه أجهزة الدعاية والحرب النفسية الإسرائيلية، لإعادة إنتاج هذا الهذيان في مقولات ستصبح بفعل التكرار وكأنها حقائق. لن يحتاج قادة إسرائيل السايكوباثيين لصاروخ ينطلق من غزة أو حادث ضد المستوطنين في الضفة، لكي يشنوا حرباً على غزة أو الضفة، ولا لضوء أخضر من هذا البلد العربي أو ذاك..

فالحرب معدة سلفاً ومنذ فترة، لهذا فإن الغرق في جدل «عبثية الصواريخ» أو «تآمر جماعة رام الله»، ليس خدمة مجانية لإسرائيل فحسب، بل جدير بأن يتوقف لأنه يكرس حالة الاحتراب التي يسعى الاسرائيليون لترسيخها، فالاحتراب هو الأداة الفعالة لتخريب وضرب الهدفين الاستراتيجيين لنضال الشعب الفلسطيني: بناء الدولة، وامتلاك الحد الممكن من القدرة على الدفاع عن الارض والشعب.

الضحايا من أهلنا في غزة والقدس لا ينبؤون عن وحشية الإسرائيليين التي خبرناها جيداً فحسب، بل هم دليل على هستيريا حكومة وشعب مأزوم أخلاقياً وسياسياً في الصميم، وجدير بنا أن نكرس هذه الهزيمة ولا نحولها نحونا.

 

Email