أين كانت هذه الأحاديث قبل «واتس آب»؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هكذا، على حين غرة، ومنذ ظهور تطبيقات التواصل المذهلة، اكتشفنا «أحاديث» لم نكن نعرفها، ولم تمر علينا في أي كتاب، تتحدث عن كل شيء، من حسنات الأذكار والأدعية وأسماء مواضع في الجنة والنار، إلى فوائد بعض الأطعمة والأعشاب..

أتساءل لحظة أن أستلم رسالة من هذا النوع: أين كانت هذه الأحاديث طيلة السنوات التي سبقت ظهور «واتس آب» و«تويتر»؟ لست بصدد جدل فقهي هنا، لكنني أطرح تساؤلاً قلقاً حول هذا السيل من الأدعية والأذكار التي تصلنا عبر تطبيق «واتس آب»، والتي لا تدعونا إلا للدعاء فقط دون أن نفعل شيئاً آخر، أو رسائل تتحدث عن فوائد أعشاب وأطعمة تبدو وكأنها معجزات ليس للطب والعلم أمامها حول ولا قوة.

ففي مثل هذه الرسائل مبالغات تستفز العقل، وتصل إلى حد تجاهل ذكر أي أعراض جانبية لها، بشكل يتنافى مع حقائق يعرفها الناس بالخبرة الحياتية فحسب، ناهيك عن ذكر أي مرجع علمي لها. وأكثر ما يستفز العقل فيها، هو ربط المعلومات «الصحية» بالكفر والإيمان، إما بأن نضفي على المنافع مسحة دينية، أو ذم «الغرب الكافر» الذي «لا يريدنا أن نعي أهمية وفائدة هذه العشبة» أو تلك!

منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها، انتشر بسرعة ما يمكن أن نسميه «ثقافة واتس آب»، كما أن تكرار الرسائل وإعادة تدويرها، يعطي انطباعاً ملازماً وكأن مصدرها واحد، وأن ثمة من يؤلفها ويترك مهمة إعادة تدويرها وإعادة إنتاجها للمستخدمين الذين يفعلون ذلك بحسن نية في الغالب.

والمشكلة ستبقى في حسن النية دوماً، لأنه يلغي دوافع التعاطي العقلاني مع مضامين هذه الرسائل. هكذا، وبحسن نية، أصبح لدينا اليوم نمط تفكير تقترحه «أحاديث واتس آب»، و«المعلومات الصحية» المتداولة عبر «واتس آب». فنصائح الأدعية تشيع نمط تفكير لا يجعلنا سوى أناس لا يفعلون أكثر من الدعاء فحسب، دون العمل والتفكير والابتكار.

ولعل التساؤل يصح عن السبب في أننا لا نستلم رسائل تحضنا على التفكير العلمي والعمل الجاد والمثابرة والاجتهاد والابتكار! غالب هذه الرسائل ينطوي على ابتزاز أيضاً، عندما تذيل بعبارات مثل «انشرها بقدر حبك للرسول الأعظم»، أو «إن كنت مسلماً فلا تجعلها تتوقف عندك»..

فهل سيتوقف حبي للرسول أو إيماني على نشر كلام لا ندري صحته من عدمها؟ لا أستخف بأي اجتهاد من شخص ما أو بحسن نيته عندما يفعل ما يعتقد أنه مفيد للناس، والناس تتداول مثل هذه الرسائل بحسن نية بالطبع، لكن حسن النية ليس كافياً عندما يتعلق الأمر بالإيمان والعلم والعقل.

رسائل الأحاديث والأدعية قد يتم تداولها بحسن نية، لكن الأمر بات يتطلب ما هو أكثر من حسن النية، لأن جزءاً غير قليل منها منحول ومزيف. أما رسائل المعلومات الصحية، فإنني مثل كثيرين غيري، ندرك تماماً منبع هذا النوع من التفكير الذي ينتجها.

فمرجعها ذلك الصراع المفتعل والقديم الذي يعاد إحياؤه، بين الدين والعلم. الصراع الذي ينخرط فيه بقوة بعض المتخصصين للأسف، من أطباء وغيرهم، وينشره بعض «فقهاء تويتر» و«واتس آب» وغيرهم، تحت لافتة خلابة تسمى «الإعجاز العلمي في القرآن».

لست لأجادل في الإعجاز العلمي في القرآن، بل في الطريقة والأسلوب الذي يتبعه هؤلاء ونتائجه. فمشكلة أصحاب هذا المنطق، للأسف، هي أنهم لا يتحدثون عن أي إعجاز علمي في القرآن، إلا عندما يظهر ابتكار أو اكتشاف علمي في أي مكان في العالم.

وإذا كان هذا صحيحاً، فلماذا لم يكتشف هؤلاء الأمر قبل العلماء الغربيين أو غيرهم؟ لماذا ينتظرون الاكتشافات ليعلنوا أن القرآن سبق أن تحدث عن هذا قبل قرون؟ الجواب ببساطة: لأنهم لا يعملون في المختبرات لإثبات هذا الإعجاز، ولا يمارسون البحث العلمي للتوصل إلى اكتشافات مثل هذه، وهم ليسوا مختصين، بل متكلمون فقط، حولوا القرآن الكريم إلى مادة للصراع مع العلم.

لقد حول هؤلاء القرآن الكريم إلى ما يشبه كتاب كيمياء وفيزياء، فيما هو كتاب إيمان وعقيدة. ولربما لا يدرك هؤلاء خطورة أسلوبهم، عندما يربطون القرآن الكريم بالعلوم التجريبية، فالاكتشافات العلمية تتم وفق مناهج البحث العلمي، وهي مناهج تجريبية، تعتمد على الفرضيات القابلة للإثبات أو الدحض.

فالاكتشاف الذي يظهر في يوم قد يتغير في يوم آخر، أو يأتي اكتشاف علمي آخر يثبت خطأه، أو يتم التوصل إلى اكتشاف آخر جديد مغاير. فهل من المعقول أن ينسب أي اكتشاف علمي إلى القرآن، ليأتي البحث العلمي بعد سنوات أو عقود ويثبت خطأه؟

الخلاصة في هذا كله واضحة، فهذا النوع من «ثقافة واتس آب»، يستخف بالعقل ويلغيه، أو يزيف الوعي بالأحاديث المكذوبة ويشوه إسلامنا.. وبحسن نية في الغالب.

 

Email