«الدرعمة» الإعلامية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعتقد أن كلمة «درعمة» تستحق الدخول في قاموسنا الثقافي، فهي تعبر عن واقع الحال بصور كثيرة. فدرعمة كلمة محلية سعودية، تعني المشي سريعا دون الانتباه أو الالتفات.

فمثلا يقال هذا فلان مدرعم، أي منطلق في موضوع دون دراية أو فكرة. ومن الواضح أن الدرعمة أخذت أشكالا كثيرة، ولكنها سلوك اجتماعي موجود يكشف أحيانا اندفاع الناس في موضوع، وحال كثيرهم «مع الخيل يا شقرا».

والخطورة حينما تكون الدرعمة فيمن يوصفون بالنخب، وهم الذين يفترض أنهم يقودون توجهات الرأي العام، وينقدون القضايا حتى يكون الجمهور على بينة.

ومثل هذا الدور القيادي في المجتمع، يتطلب أشخاصا قادرين ومثقفين ولديهم عمق فكري، بحيث يكون توجههم ورأيهم مبنيا على التحليل المنطقي. ولكن الإعلامي المدرعم هو الذي يسطح الأمور ويمشي مع التيار، بحيث يركز اجتهاده في معرفة التوجهات، سواء كانت للمسؤول أو رأي الشارع، ويوظف أسلوبه ومشاركاته للتماهي مع هذه التوجهات.

وهذه الطريقة تعتبر أبسط وأكثر أمانا للإعلامي، فهو يضمن أنه يسير حسب الخط العام. وفي نفس الوقت يستطيع البعض أن يزايد في هذا التوجه حتى يكسب قبولا عند المسؤول أو رضى عند الشارع. وهنا يفقد الإعلام رسالته، فبدلا من أن يكون السلطة الرابعة التي تمارس دور الرقيب، تخبو لتنضوي تحت ظلال المسايرة وتفقد دورها الحقيقي.

ودائما الصوت المختلف منبوذ، خاصة إذا كانت هناك تعبئة عامة أو توجه إعلامي قوي نحو رأي معين, فهو يغامر بمخالفة تيار كبير، ولكن هذه مسؤولية المثقف الذي يصدح برأيه متى ما كان مقتنعا به. يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه «لا تستوحشنّ طريق الحق لقلة سالكيه».

وكم هو مضحك حين تتبدل المواقف فيرتبك هؤلاء الإعلاميون ويتوهون، فهم حسب «الريموت»، وبعضهم لا مانع لديه من التنقل كالهزاز من موقف إلى آخر طالما يخدم أجندته الخاصة، ويبقيه ضمن الحاضرين على الساحة.

والتبدل وتغيير المواقف انكشف في الدول التي تغيرت فيها الأنظمة، فإعلاميو النظام السابق في لحظة بدأوا بالتبرؤ ودرعموا مع النظام الجديد. وزمن التبدلات كان يمضي متواريا، معتمدا على عامل الزمن، خاصة أن ذاكرة الشعوب ضعيفة وعاطفية.

ولكن مع غوغل الذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويحفظها، واليوتيوب وهو يسجل في ذاكرته الضخمة كل كلمة قيلت، وجميعها متاحة بضغطة زر. فموقف هؤلاء سيكون صعبا، فالشعوب اليوم لا تعتمد على ذاكرتها فقط.

والدرعمة أخذت أشكالا وألوانا في مجتمعاتنا، وسببت أيضا مشاكل كبيرة. وهي ليست خاصة بمجتمع دون غيره، حتى في الولايات المتحدة. ففي 1950 عانت من «المكارثية»، وهي ربما تكون رديفا مناسبا لكلمة الدرعمة.

والمكارثية تنسب إلى عضو الكونغرس الأمريكي جوزيف مكارثي، الذي اتهم موظفين وإعلاميين بأنهم شيوعيون ومنحازون إلى الاتحاد السوفيتي. وأصبحت هذه التهمة جاهزة لأي إعلامي أو سياسي، وبمجرد أن يتهم فلان بأنه شيوعي، يدرعم الأمريكان بالهجوم عليه.

وحقق مكارثي شهرة وشعبية هائلة في ذلك الوقت. والدرعمة الأمريكية أقوى، لأنها كانت تنتهي بالمتهمين في قاعات التحقيق والسجون. وتبين أن معظم اتهاماته كانت غير صحيحة وليس لها أي أساس.

واكتشف الأميركان خطأ درعمتهم بعد أربع سنين، وأن هذا المتحمس المدافع عن الوطن، لم يكن إلا فاسدا ومزورا، وتمت إدانته ومات مدمنا على المخدرات. لكن الأمريكان تغيروا، وأصبحوا يستخدمون مصطلح المكارثية للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين.

والاعلام الجديد في منطقتنا، يلعب دورا كبيرا في تجسيد الدرعمة بوضوح. فما أن يغرد أحدهم متهما آخر بموضوع أو طرح تفسير لتغريدة معينة، حتى تلقى المدرعمين منطلقين في هجوم دون معرفة الموضوع أو محاولة قراءة النص وتحليله.

ولذلك شبكات التواصل الاجتماعي بينت هذه الإشكالية وخطورتها، ليس فقط على رد الفعل والمهاترات، بل في التركيبة البنيوية لثقافتنا وأسلوب تفكير الناس. النخب الثقافية والإعلامية أمامها مسؤولية تاريخية، فهي مطالبة بأن تبني معاييرها وتوجهاتها بأمانة وصدق، وأن تضع مصلحة المجموع قبل المصلحة الذاتية.

 كما أن مؤسسات التعليم والإعلام ورجال الدين، مسؤوليتهم أن يطوروا طريقة تفكير مجتمعنا وأبنائنا من أسلوب التلقين إلى الفهم والتحليل، حتى تكون للفرد شخصيته وتحليله ورؤيته الخاصة. متى ما استطعنا أن نتعلم احترام تباين الآراء ونستمع للرأي المخالف حتى لو كان أقلية، فنحن نضع أرضية مناسبة لمجتمع صحي متوازن، قادر على صناعة مستقبله بذاته.

 

Email