تداعيات وأبعاد المصالحة الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخطوات المحدودة والتصريحات الكثيرة، التي ترمي للتأكيد على مصداقية الطرفين، فتح وحماس، في تنفيذ وثيقة القاهرة للمصالحة، وإن كانت لا تجيب عن أسئلة المتشككين وغير المتفائلين، إلا أنها تدعو إلى قراءات عميقة للأسباب والدوافع التي أدت إلى توقيع ما يعرف اليوم باتفاق الشاطئ في غزة.

قراءة الأسباب والدوافع لا بد أن تذهب نحو تفسير هذا التحول الإيجابي في المشهد الفلسطيني، وما إذا كان ينطوي على مجرد انحناءات تكتيكية، تمليها ظروف المرحلة والمتغيرات في المحيط العربي والإقليمي، أم أنها تنتمي إلى التحولات الجذرية العميقة التي تطال المرجعيات الأيديولوجية والسياسية، والناجمة عن مراجعات نقدية شاملة.

لقد استطالت المرحلة التي حاولت من خلالها حركة حماس تكريس وجودها، بموازاة وكبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ومزاحمة المنظمة على الشرعية العربية، وكان الأمل إزاء ذلك كبيراً، بعد فوز جماعة الإخوان المسلمين بالحكم في مصر، ذلك الفوز الذي جعل قيادة حماس تتحدث عن ربيع عربي وشتاء إسلامي.

لم يكن التغيير الذي وقع في مصر منذ الثلاثين من يونيو العام الماضي هو الوحيد، رغم أنه الأكثر أهمية على الإطلاق، فهو السبب الذي يدفع حركة حماس للتحول نحو المصالحة، حين تعثر المشروع الإخواني وتراجعت إمكانيات تحقيقه ونجاحه في تونس وليبيا واليمن.

وهو يواجه صعوبات حقيقية في تركيا وفي سوريا، حيث لم تستطع جماعة الإخوان أن تكرس نفسها في المشهد السوري المضطرب، كبديل قوي مؤهل عن الجماعات الإسلامية المسلحة، المتطرفة والإرهابية.

تحليل خطاب المصالحة لدى حركة حماس، يشير إلى أن الحركة لم تذهب طوعاً إلى خيار المصالحة، وأنها وصلت إلى حد الاختناق، بحيث لم يعد أمامها لإنقاذ نفسها سوى خيار المصالحة كخيار اضطراري وحيد، الأمر الذي يلزم الباحثين بمتابعة مدى استقرار هذا الخيار، وما إذا كان ينتمي إلى الخطوات التكتيكية المؤقتة، أو إلى التغيير الاستراتيجي بعيد المدى.

وفي الحالتين فإن المسألة ليست رغبوية، ولا هي رهن بما تخطط له قيادة حماس، فالقطع مع السياق المستقر لفترة طويلة سابقة، ليس سهلاً على حركة أنشئت وثبت وجودها ودورها وأهدافها على فكرة معينة، محصنة أيديولوجياً، وإنما قد تفرضه أو تستبعده العوامل الموضوعية، وهي التي تقف أساساً خلف هذا التحول الجاري في موقف الحركة من المصالحة.

قد يقول قائل إن حركة فتح هي الأخرى تندفع نحو المصالحة كخيار اضطراري وحيد، وكمخرج من الأزمة الوطنية التي تسبب فيها غياب الخيارات البديلة، في ضوء فشل خيار المفاوضات كسبيل لتحقيق السلام وانتزاع الحقوق الوطنية الفلسطينية.

صحيح أن حركة فتح تعاني من أزمات وليس أزمة فشل المفاوضات، وتراجع إمكانيات تحقيق المشروع الوطني عبر برنامج السلام، لكنها لا تزال في موقع قيادة هذا المشروع، وتمسك بالشرعية الوطنية، وبقيادة منظمة التحرير التي لا تزال تحتفظ بمكانتها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.

على أن عدم انغلاق الأفق أمام المفاوضات والعملية السلمية، رغم فشلها حتى الآن، يجعل ملف المصالحة محكوماً بالتوجهات السياسية لدى فتح وحماس، ويعطي الأفضلية، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، لحركة فتح وسياستها، مما يعني أن المضي قدماً في تحقيق المصالحة يتطلب من حركة حماس التكيف سياسياً مع التوجهات السياسية لحركة فتح والمنظمة والسلطة.

هذا يعني أن وثيقة القاهرة للمصالحة التي تم الاحتفال بتوقيعها في الرابع من مايو 2011، في ظل ظروف معينة كانت لصالح حماس، لم تعد صالحة تماماً، بعد كل المتغيرات الدراماتيكية التي وقعت منذ ذلك الوقت.

ومع أن الطرفين وقعا في غزة مؤخراً، اتفاق تنفيذ وثيقة القاهرة، إلا أن مجريات التنفيذ من حيث الآليات والرزنامة الزمنية، ومن حيث المضامين، ستراعي الاختلال في موازين القوى الداخلية، بسبب اختلاف الظروف التي ساهمت في إنتاج وثيقة القاهرة.

حركة فتح التي وقعت وثيقة القاهرة من موقع الندية في أحسن الأحوال مع حركة حماس، تشعر اليوم بأنها غير مضطرة لتقديم تنازلات، أو الالتزام ببعض ما تضمنته وثيقة القاهرة، وأن عليها أن تعمل وفق قاعدة ما لدينا لنا، وما لديكم لنا ولكم.

لقد أظهرت حماس، التي تتبنى خيار المقاومة، وترفض المفاوضات وشروط الرباعية الدولية، أنها مستعدة في إطار تغليب السياسة على الأيديولوجيا، لأن تتعاطى بطريقة إيجابية، ولو كانت التفافية، مع متطلبات المرحلة السياسية، لكن ليس إلى حد تبني السياسة والخيارات التي تعمل وفقها منظمة التحرير الفلسطينية.

وإزاء الملف الأمني الذي يتصل ببرنامج المقاومة، فإن أطرافاً عديدة تشهد لحركة حماس بنجاحها في الحفاظ على التهدئة مع إسرائيل، وبأن تفعيل المقاومة المسلحة غير وارد إلا في حالة بادرت إسرائيل لشن عدوان كبير على قطاع غزة.

هكذا تؤشر المصالحة إلى أنها خيار اضطراري، ينطوي على تغييرات ذات أهمية، من حيث إنها تساهم في تفكيك الخطاب السياسي المرجعي والأساسي لحركة حماس.

وبما أن الأمر على هذا النحو، فإن تفكيك البنى ومنظومة الأفكار والسياسات التي ترسخت خلال مرحلة الانقسام، دونها الكثير من الصعوبات والعقبات التي قد تتطلب، عدا عن الإرادات الوطنية، الكثير من الوقت والكثير من التضحيات، خاصةً وأن إسرائيل صاحبة المصلحة الأولى في وقوع واستمرار الانقسام، ستحاول بكل الطرق والوسائل إفشال هذه المصالحة.

 

Email