كيف تفكر الشركات؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أربعينات القرن الماضي، وقعت حادثة طريفة لتاجر ملابس بحريني تعاقد مع شركة يابانية على تصنيع «عقال» خاص به كي يغدو علامة مسجلة. وعند استلامه للشحنة اكتشف أن الشحنة المرسلة من اليابان تضم عُقلاً سُوداً وحمراء وخضراء وصفراء وزرقاء وهكذا.

قصة طريفة، لكن أتمنى أن لا تنسيكم طرافتها العبرة الكامنة فيها وقد يثيرها سؤال: «ما هو الخطأ الذي أدى إلى هذه المفارقة؟». تفصيل صغير جداً هو أن التاجر نسي أن يبلغ اليابانيين بأن العقال المطلوب لونه «أسود» فقط.

تحضرني هذه القصة في أكثر من مناسبة عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل، لكن مع فارق بسيط هو أن القصص التي تستحضر هذه القصة تخلو من أي طرافة، تفاصيل صغيرة في المعاملات من كل نوع، بعضها يتم التشديد عليه ويتم تناسي بعضها الآخر والنتيجة شعور ملازم لنا بأن ثمة خللاً ما في تعاملات شركات ومصارف وغيرهم مع المستهلكين.

يتصل بك أحدهم على هاتفك النقال ويحدثك وبشكل لاهث عن قروض، برامج تأمين، خدمات، اشتراك في خدمة ما، تخفيضات، بطاقات ائتمان. السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن: من أين حصل هذا المتصل على رقم هاتفي؟ الرقم الذي لا تضعه شركات الاتصالات في أي دليل؟ ذات مرة اتصل بي شخص من مصرف يعرض علي قرضاً فسألته من أين حصل على رقم هاتفي، تلعثم وأحاب: من المصرف المركزي.

عاودت سؤاله: هل يقوم المصرف المركزي بتوزيع أرقام هواتف زبائن البنوك على من يريد؟ هل تستخف بي؟ أغلقت السماعة بغضب لأن التفصيل الصغير المهمل في هذه القصة ينطوي على إهانة، فعندما يستخف بك أحد لا مناص من الشعور بالإهانة.

أما أولئك الذين يتصلون بنفس الطريقة ويعرضون عليك خدماتهم وبرامجهم وهم متلهفون على نيل موافقتك ويكررون طلبهم بصيغ شتى مثل: هل أسجلك في البرنامج؟ هل اعتبر انك موافق؟، فإن التفصيل الصغير المهمل هنا هو احساس ثقيل الوطأة: كيف يتوقع هذا الشخص ومن كلفه بهذه المهمة أن يوافق شخص ما على دفع أموال والالتزام بقروض لسنوات دون قراءة أي عقد أو وثيقة من أي نوع إثر مكالمة لا تتعدى دقائق من شخص يتحدث مثل المسجل ولا يصغي لأي ملاحظة أو استفسار؟ هل لديكم تعريف آخر للاستخفاف غير هذا؟

لقد اتصل بي حوالي 11 شخصاً من مصرف واحد يعرضون قرضاً شخصياً، وكلهم يتوقعون كلمة سحرية واحدة: نعم أوافق. لكنني كنت استفسر واطلب توضيحات واطلب إرسال نموذج عقد يوضح الشروط ونسبة الفائدة وغيرها، لكن دون جدوى. أ

طلب فيعدون بإرسالها والتواصل معي لكنهم لا يفعلون. يتعاقب على الاتصال بك 10 أشخاص من نفس البنك وبنفس الطريقة اللاهثة ويتوقعون الكلمة السحرية نفسها: هل انت موافق؟ لا مفر هنا من الإحساس المرير نفسه: استخفاف.

أما مراكز الاتصال أو خدمة الزبائن فهي قصص أخرى. لقد واجهت شخصياً مشكلة للمرة الأولى أواخر العام 2011 عندما عاد مبلغ مرسل إلى ابني في استراليا إلى حسابي مع ملاحظة تقول: «رقم حساب المستفيد خطأ». وعندما تحريت الأمر اتضح أن آخر رقمين في رقم الحساب ساقطان.

أبلغت خدمة الزبائن وطلبت منهم أن يبلغوا الشؤون التقنية لديهم لمعرفة السبب. تلقيت مكالمة بعد يومين ابلغني فيها المتصل أن الشؤون التقنية يقولون «إن الزبون قام باللعب في أرقام الحساب».

لقد شعرت بإهانة حقيقية تغذيها حقيقة أن كل المكالمات مسجلة (لأغراض التدريب أو تحسين الخدمة..) لكن أحداً من مسؤولي ذلك المصرف لم يحرك اصبعاً ليتصل رغم مرور 4 سنوات.

تكررت هذه المشكلة لاحقاً 3 مرات حتى منتصف العام 2012، وتبين ان النظام لسبب تقني او غيرها يحذف الأرقام. لكن دون اطالة: لم أتلقَ أي رد على 4 شكاوى حتى اليوم.

لا يقتصر الأمر على المصارف، بل يمتد ليشمل شركات أخرى. الممارسات هي نفسها: لا تجاوب، اهمال في التواصل مع الزبائن يمتد لأسابيع، تهرب من الشكاوى ليصل الأمر بالزبون في نهاية المطاف الى الانفجار جراء شعور مؤكد بالمهانة.

قصة العقل الملونة رغم طرافتها تذكرنا بأمر واحد: في التجارة وأي معاملة بالأموال، لا يمكن أن تستخف ببعض التفاصيل، ولا يصح ان نكون انتقائيين، نشدد على التفاصيل التي تهمنا ونهمل عمداً التفاصيل التي تهم الطرف الآخر.

والمعاملات المبنية على عقود تستوجب معرفة الشروط قبل التعاقد. هل يذكركم هذا بقصة تعرضتم لها يوماً؟ نعم يذكرنا بذلك النوع من حيل مندوبي المبيعات الذين يتعمدون إخفاء تفاصيل يعرفون جيداً انها قد تغير رأي الزبون ولا تظهر لاحقاً.

في نهاية المطاف، لدينا مشكلة اسمها «ديون المواطنين» ما زالت تذكرنا بنوع خدمة وعلاقات الزبائن التي تفكر بها المصارف. ولدينا شكاوى مريرة لا تنقطع من المستهلكين تفوق طاقة إدارة حماية المستهلك وقصص يومية يتداولها الناس عن شركات ليس لديها سوى تعريف واحد للتجارة: «مجموعة من الحيل لانتزاع الأموال ».

شركات ومصارف لو خصصت ربع ما تنفقه على حملات العلاقات العامة على جهد حقيقي لتطوير أدائها والتعامل مع السوق والمستهلكين والبلد بإحساس أكبر من المسؤولية وبنظرة بعيدة الأمد، لما وجدت كل تلك المشكلات أصلاً، لا ديون متعثرة، ولا شكاوى ولا إحساس ثقيل بأن هناك من يستغفل الناس دوماً لانتزاع أموالهم فحسب.

 

Email