ليس بعدُ يا توني

ت + ت - الحجم الطبيعي

تميَّزت الآداب السياسية والفكرية الأوروبية بما يُسمى «ثقافة المراجعة»، ذلك أن ما كان مسطوراً منذ زمن مضى وانقضى، قد يكون مفيداً جداً في اللحظة الراهنة، كما أن المسطور تاريخياً ليس واحداً، بل متعدد بطبيعته. فالمعروف أن المؤرخين في ما يكتبون ويدوِّنون، ينطلقون غالباً من رؤية محددة، وقد تكون زاوية الرؤية مقرونة بأيديولوجيا فردية، أو اعتبارات نفسية، وربما ما أصبح شبه كلام مغلق مستغلق.. والأمر في الحقيقة ليس كذلك، ما يقتضي قراءة التاريخ قراءة متعمقة، تستخرج من وراء ركام الكلام ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

هذه الثقافة الأوروبية في فن المراجعة والاسترجاع، تُظهر أيضاً وضمناً معنى الرُّشد في قراءة الأوضاع المختلفة، والمُستجدات المفاجئة، والتقلُّبات العاتية في المُعطى السياسي الدولي.

وأذكر هنا، وعلى سبيل المثال، أن الأوروبيين كانوا مُجمعين على التأنِّي في خوض حروب الخليج الزلزالية، وكانوا يبررون قرار الحرب بوضوح الرؤية في العتبة التالية لشن حربي العراق وأفغانستان، ويرفضون خوضهما إن لم تكن العتبة التالية لشن الحرب واضحة المعالم، وفي المقابل، كانت الولايات المتحدة ترى أن نظرية العتبة التالية لقرار الحرب، نظرية مُتخلِّفة ومنقرضة. والمقصود بحسب العُرف الأميركي أن العتبة التالية لشن الحرب تأتي تلقائياً، ولا يمكن التنبؤ بها، وبهذا المعنى يرون أن الاندفاع نحو المبادأة المقرونة بالقوة الكاسحة، ستعني تسوية الملعب السياسي للنموذج الألفي الجديد، الذي يرونه بيقين إيماني شبه ديني.

لقد أثبتت التجربة بُطلان هذا المفهوم، فما يجري اليوم في أفغانستان والعراق يثبت تهافت ما ذهب إليه الجمهوريون الأنجليكانيون، المدافعون عن نظرية الاكتساح، والقوة المجردة، بوصفهما المقدمات الحاسمة لترتيب الأوضاع الجديدة، وفق السيناريوهات الذهنية التي استحكمت في العقل السياسي النيتشوي في الولايات المتحدة.

أوروبا الغربية، وخاصة بريطانيا وفرنسا، لم تكن موافقة على هذه النظرية، غير أنهم انخرطوا في المعادلة انخراط المجبور الذي لا مفر له من الاتساق مع العربة الأميركية القائدة للغرب السياسي العالمي. وعندما أزفت ساعة الاحتفال البريطاني بالنصر المبين بعد سقوط نظام صدام حسين، هرول توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني آنئذٍ، ليُبشِّر ملكة بريطانيا بالنتيجة، ويقترح عليها احتفالاً كبيراً بالمناسبة، فكان رد الملكة المباشر: ليس بعدُ يا توني.

وبهذا القول، بدا واضحاً أن الاستشارات السياسية البريطانية العاقلة، أدركت مُبكراً أن ما جرى في العراق لن يصنع نظاماً ديمقراطياً مثالياً، ولن يقدم نموذجاً صافياً للنظام العربي الجديد، بل العكس تماماً. وقد ثبت بالدليل القاطع ما افترضه حكماء أوروبا، فالعراق تحوَّل إلى دولة فاشلة، رغماً عن ملايين براميل النفط التي تُصدَّر يومياً، وأصبح القتل والموت المجاني فيه يتجوَّل يومياً، كما لو أنه قدر مقدور على العراقيين، وتحوَّلت الطائفية السياسية المقيتة إلى بؤس يشمل الجميع، ولم يعد أحد يرى في النموذج العراقي الماثل سوى تأكيد فاقع على مآلات بائسة كئيبة، مسارها الدماء الغزيرة، ولُحمتها الزحف نحو موت جماعي مرعب.

من شواهد الإدراك البريطاني المُبكِّر لهذه الحقيقة، واقعة الموقف العلني لكبير مفتشي أسلحة الدمار الشامل ديفيد كيلي، الذي رفض رفضاً قاطعاً التوقيع على وثيقة تبرير حرب العراق الأخيرة بحجة امتلاك النظام لأسلحة دمار شامل، وكانت النتيجة بعد يوم من ذلك الرفض العلني، ما نقلته الصحف البريطانية من أن ديفيد كيلي وُجد ميتاً في منزله الريفي، بعد أن انتحر قهراً.

العالم العربي يفتقر لثقافة المراجعة واستقراء ما يكمن في الأراشيف من معلومات وحقائق، تساعد على استبصار الدرب نحو المستقبل، وترشيد الخيارات، وتأمين القدر المناسب من التوازن، ولهذا وقعت سلسة من البلدان العربية في مصيدة الربيع ومتوالياته الشاخصة. وما كان للنظام العربي أن يقع في هذه الحفرة لو عرف الماضي، ليستشرف المستقبل، وما كان له أن ينهار كحجر سقط من علياء شاهق إلى حضيض الوديان السحيقة، لو أن عرَّابيه أدركوا تبعات المستقبل وضروراته، فالعرب ليسوا فاقدي إمكانات مادية وبشرية وعلمية، بل ينطبق عليهم ما قاله الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما * والماء فوق ظهورها محمول

منطق التخطِّي الإجرائي لمعنى الماضي المسطور، ظهر جلياً منذ القطيعة غير المبررة مع الماضي، بعيد الاستقلالات السياسية لعديد البلدان العربية، التي تحوَّلت بين عشية وضحاها إلى جمهوريات، وذلك بقدر ممارستها لقطيعة منهجية مع الماضي.

حدث ذلك في مصر واليمن والجزائر والسودان والعراق، ففي مصر ما بعد ثورة يوليو، اعتبرنا العهد الملكي السابق عهداً رجعياً متخلفاً بالجملة، وهكذا فعلنا في اليمن الشمالي، والسودان، والعراق.. وكانت النتيجة تبلور جمهوريات أوتوقراطية فردانية، خرجت من إضبارة الاستيهامات السياسية غير ذات الصلة بمنطق التاريخ والجغرافيا.. وفي المقابل، ظلَّت النماذج السلطوية الأخرى في جوهرها، مُقيمة في بسائط ماضيها، متأبِّية حصراً على الإصلاحات الدستورية. وفي كلتا الحالتين كُنَّا وما زلنا مُفارقين للتاريخ والجغرافيا وحكمة الخيار المستقبلي، مع استثناءات محدودة هنا وهناك.

وما دمنا بصدد ثقافة المراجعة والاستعادة العاقلة لحكمة الماضي، لا بأس من الإشارة للتجربة الآسيوية الفريدة في هذا الجانب، وخاصة في الصين المعاصرة، التي انطلقت من هذا المفهوم لتقدم نموذجاً مغايراً لمألوف النماذج السياسية والاقتصادية في العالم.

فقد انطلقت الصين من رؤية الحكيم الصيني «صن تسو»، ذلك الذي علَّم الصينيين فنون إدارة الحرب دون خوضها، ومعنى القوة الناعمة الاختراقية، وكيف يعيدون إنتاج الماضي بكيفيات مستقبيلة. ذلك ما ألهم أيضاً «ماوتسي تونغ» ورفاقه، ممن تمثَّلوا نظرات الحكيم الحاضر في جوهر فلسفة «التاو» الصينية، واستطاعوا بذلك دحر أعتى قوة إقطاعية عالمية مُدجَّجة بالمال والسلاح، من خلال إدارة فن الحرب المُغاير لمألوف الحروب التقليدية، كما كانت تلك الحكمة دالة مؤسس الإصلاح الكبير «دينغ سياو بنغ» الذي اختطَّ طريقاً سالكاً لصين جديدة، لا تُجافي ماضيها ولا تُقيم في مرابعه إقامة المسترخي الكسول.

التجربتان الصينية والأوروبية جديرتان بالنظر والملاحظة، فالعرب ما زالوا بعيدين عن فن التعامل العاقل مع معلومات التدوين والأرشيف، وهم في أمس الحاجة لذلك في ظل المعطيات المترجرجة في العالم المعاصر، خاصة وأن العرب يتموْضعون في النقطة الأكثر حرجاً في معادلة المُتغير العاصف الذي يحيق بالعالم.

Email