المصالحة تؤسس لاستراتيجية فلسطينية جديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأشهر التسعة من المفاوضات التي انتهت في التاسع والعشرين من أبريل المنصرم، تشكل ميدان اختبار حقيقياً لنيات واستراتيجيات الأطراف الثلاثة؛ الولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين، ولفحص إمكانية تحقيق تسوية مقبولة للصراع في المدى المنظور.

بمراجعة مجريات التفاوض خلال التسعة أشهر، نلاحظ أن الإدارة الأميركية انتقلت من آلية الإشراف على مفاوضات ثنائية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، إلى آلية القيام بدور مباشر في التفاوض مع الطرفين كل على حدة، بعد أن توقفت المفاوضات الثنائية المباشرة في نوفمبر الماضي. غير أن هذا التغيير في عملية التفاوض، افتقد آلية التدخل الفعال من أجل جسر الهوة الواسعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى الحد الذي يسمح برفع مؤشرات التفاؤل.

الولايات المتحدة خلال المفاوضات وبعدها، ظلت تمارس ضغوطاً وتطلق تهديدات مصحوبة ببعض الوعود للطرف الفلسطيني، لكنها امتنعت عن ممارسة أي ضغط على الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل، واكتفت بإصدار تحذيرات لما قد تتورط فيه إسرائيل في حال فشل المحاولات من أجل تنفيذ رؤية الدولتين. يبدي الأميركيون جدية وإصراراً على إنجاح المفاوضات، لكن الإسرائيليين يظهرون إرادة أقوى وتحدياً ملحوظاً للرغبات الأميركية، متسلحين بدعم الجمهوريين، وبنفوذ اللوبي اليهودي الأميركي الذي فشل الديمقراطيون في تجنيده لصالح الضغط على إسرائيل.

ورغم أن إدارة الرئيس باراك أوباما مقتنعة على الأرجح بأن إسرائيل هي التي تشكل العقبة الأساسية أمام تحقيق التسوية، وأنها المسؤولة وحدها عن فشل الجهود الأميركية، إلا أن الإدارة الأميركية تكتفي بتجديد الالتزام بالسعي لمتابعة جهودها السلمية، وبمنح الطرفين بعض الوقت للتفكير والمراجعة.

لقد حصل بعد مؤتمر أنابوليس عام 2008، أن اشتغلت الولايات المتحدة على خط تغيير حكومة نتنياهو التي أظهرت حينها تمنعاً عن الاستجابة لنتائج المؤتمر، ولذلك ينبغي متابعة تداعيات فشل المفاوضات، والجهد الأميركي الراهن على مستوى العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وعلى مستوى الداخل الإسرائيلي، وأيضاً على الساحة الفلسطينية. في هذا السياق، كان وزير الخارجية الأميركية جون كيري الذي تلقى الكثير من الإهانات من قبل رسميين إسرائيليين، قد صرح عقب انقضاء المهلة المخصصة للمفاوضات بأنه «لو كانت هناك قيادات إسرائيلية وفلسطينية مختلفة، لاختلفت الأمور».

إن تتبع خطوط السياسة الإسرائيلية الواقعية، منذ قرار شارون إعادة الانتشار في قطاع غزة عام 2005، وما جاء بعد ذلك على صعيد الاستيطان وتهويد القدس، ومواصلة بناء جدار الفصل العنصري، لا بد أن يصل إلى استنتاج أن إسرائيل تعمل من أجل إقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة، وكانت تأمل قبل ثورة 30 يونيو الماضي في مصر، أن يتمدد القطاع في أجزاء من سيناء، لاستيعاب تداعيات الانفجار السكاني من ناحية، واستيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين في إطار خطة التوطين، وهو مخطط قديم منذ خمسينات القرن الماضي.

ثم استكمال المخطط الإسرائيلي بالانسحاب من نحو 40-45% من الضفة، تشمل المدن والمناطق كثيفة السكان، ودفعها نحو الأردن، بغض النظر عن صيغة العلاقة، ولذلك عملت إسرائيل وحرصت على استمرار وتعميق الانقسام الفلسطيني الذي اعتبرته ذخراً استراتيجياً.

وتدرك الولايات المتحدة، أو لا تدرك، أن الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، مقتنعون بأن إسرائيل تعمل منذ سنوات لتنفيذ هذا المخطط، ولذلك أبدى الرئيس محمود عباس، رغم المعارضة الفلسطينية الواسعة، أقصى درجات المرونة في التعامل مع المساعي الأميركية من أجل المفاوضات والتسوية، لكن دون المساس بالثوابت الوطنية.

وفي خطابه الأخير أمام المجلس المركزي الفلسطيني، كان واضحاً أنه يسعى لنزع كل الذرائع، سواء التي تسوقها إسرائيل أو الولايات المتحدة، إلى أن بلغ به الأمر إدانة الهولوكوست ووصفه بأنه من أبشع الجرائم التي ارتكبت في العصر الحديث، وهي إدانة غير مسبوقة من قبل أي مسؤول فلسطيني، خصوصاً وأن ذلك لم يقترن بالتذكير بالجريمة التي ارتكبتها الصهيونية في حق الفلسطينيين.

المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس جاءت في هذه الظروف، لتكون جزءاً من ملامح الاستراتيجية الفلسطينية في مواجهة التحديات التي تطرحها السياسة الإسرائيلية. ولأنها تسدد ضربة للمخططات الإسرائيلية، فإن حكومة نتنياهو تتخذ منها مواقف متطرفة، فيما تكتفي الإدارة الأميركية بربط المصالحة بالموافقة على شروط الرباعية الدولية.

حتى هذه نجح الرئيس عباس في الإجابة عنها، حين قال إن حكومة التوافق الوطني «لن تكون فصائلية»، وإنها ستعترف بشروط الرباعية التي سبق للمنظمة أن اعترفت بها.

وكان مثل هذا التصريح سيفجر الوضع الداخلي، لولا أن المصالحة هي خيار الضرورة الذي لا خيار سواه للكل الفلسطيني، وقد كان لافتاً أن ترحب حماس بخطاب الرئيس، دون أن تمر أو ترد على هذا التصريح سلباً أو إيجاباً. وإذا كانت حظوظ نجاح المصالحة هذه المرة أفضل من كل سابقاتها، فإنه يترتب على الفلسطينيين أن يستثمروا الوقت في إعادة ترتيب صفوفهم وأوراق قوتهم، وهي كثيرة على تواضعها.

Email