لن أخجل أن أقول إنني أحبك

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعض الأحداث تمرّ بنا سريعاً حتى لا نكاد نذكرها، وبعضها يطيل المكوث وكأنها تستوطن فينا، وأظن أن الواقعة التي كشفها تلفزيون دبي، أخيراً، ونشرتها الصحف المحلية، لخادم آسيوي ينهال بالضرب على مخدومه المسن دونما رحمة، من النوع الذي يسكن الذاكرة ولا يغادرها.

واهم من يطالب بضرورة إخضاع الخادم أو الخادمة للفحوص النفسية والعقلية قبل الاستعانة بهما، ويعتقد أنه بذلك يستطيع أن يتركهما لخدمة الأب أو رعاية الأم والوقوف على حاجاتهما من دون قلق، ظاناً أنه بهذا قد برّ بهما وقام بواجبه، وهو ذاته بحاجة إلى علاج نفسي.

لقد أعمت بصيرتنا ماديات الحياة التافهة.. انظروا إلى حال الوالد المسن الذي ابتلي بخادم مجرم، هل تساءلنا يوماً بماذا ابتلينا نحن؟! لقد ابتلينا بعدم فهم أن البر لا يكون بخادم، مجرم أو غير مجرم، أو قضاء حاجة، إنما البر هو جزاء الإحسان بالإحسان، والرعاية بالرعاية، والاهتمام بالاهتمام، والحب والتوقير والاحترام والتواضع والعطاء.

إن مجرّد وجود الأبوين نعمة كبرى يجب استغلال كل لحظة في برّهما، وعمل كل أمر يسرّهما.

لقد آلمني كثيراً منظر ذلك الوغد الذي ينهال بالضرب على الرجل المسن، وهو الذي خارت قواه وغلبه المرض وقلّة الحيلة. يتملّكني الغضب وتغالبني الدموع كلما تذكرت ذلك المشهد، وتهرب اللغة مني ولا أعود قادرة حتى على لملمة كلماتي، وكلما هممت بالكتابة يضيق صدري، وأشعر بأنني متعبة جداً، وحزينة جداً، وكأن هذا الحزن ولد معي.

لقد أيقظت فيّ صورة ذلك المسن العاجز حتى عن الدفاع عن نفسه، عجزي أنا، وكأني من تعرّض للضرب.. في الواقع، لقد أيقظني ذلك الخادم البشع.

نعم، لقد ضربني أنا، لكن هل يكفي ذلك العكّاز الذي ضُرب به الوالد المسن لإيقاظنا وكشف عجزنا؟ لقد بتّ مقتنعة بأن الضربات الموجعة هي التي تصنع تفكيرنا الحقيقي في الأمور جميعها، وما صنعته لي حادثة الإساءة تلك، أنني أدركت أن أبويّ محيطان كبيران، وأنهما اعتبراني ولا يزالان كل قطرة فيهما، وأنني لم أقدّم لهما قطرة واحدة أو جزءاً ولو يسيراً مما قدّماه لي.

لقد أصبحت أتلهّف للقائهما أكثر من أي وقت مضى، أصبحت لا أطيق الانتظار حتى أجالسهما وأشعر بروعة وجودهما، وأنير عينيّ برؤيتهما قبل مضي سني العمر دون الشعور الحقيقي بذلك.. بتّ أكثر تأملاً لوجهيهما وحفظ ملامحهما..

لقد غفلت خريف سنوات كثيرة دون مطر، وفوّتّ لحظات كثيرة كان يمكن أن أقضي فيها وقتاً أطول معهما.. لقد أيقنت أن أفكاري ملوثة، وأن نوافذ قلبي هشّة.. كنت أظن أنني لم أعد أحتاج إلى أحد، لكنني اليوم أحتاج إليهما أكثر من أي وقت مضى، وفي الحقيقة كنت دائماً أحتاج إليهما وسأبقى.

لقد أدركت أن أكثر الأمور إيلاماً للنفس حتى الوجع، أن تريد قول شيء ما لأحد أبويك ولا تستطيع، إما لخجل طفولي وإما لثقافة ساذجة.. لقد حررتني حادثة الاعتداء على الوالد المسن من هذا الألم، حررتني من الحب الأخرس الذي يأتي كالندم، حررتني من أن أبقي مشاعري لوالديّ حبيسة قلبي. إن اعتقادنا أن عطاء الأبوين يجب أن يكون أبدياً وهو واجب، اعتقاد فيه إجحاف كبير لهما.

لقد انتظرت طويلاً لكي أقول لأبي إنني أحبه، كم تمنيت أن أقولها، لكنني سأقولها اليوم بصوت عالٍ: أبتِ إني أحبك وأفتخر بك، وكلما أراك تجوب في نفسي السعادة حتى لو كنت في مكان بعيد، كل الأشياء من الممكن أن تخذلني في هذه الدنيا إلا أنت يا أبي، فلتهيئ لي دائماً مكاناً إلى جانبك عندما آتيك، وانتظرني كما أنتظر بشوق لقياك، كنت أراك وأنا طفلة رجلاً قوياً عزيزاً، كنت أراقبك دائماً، وأنتظر أن تبتسم، كنت أعشق ابتسامتك الجميلة، ولا سيّما عندما أكون أنا سبباً فيها..

لقد كنت فارسي الذي لن يأتي الزمان بمثله أبداً، وستبقى دائماً في أعماقي رجلاً عظيم القدر شامخاً كالجبال..

 كنت عندما أنظر إلى صورتك أتمنى أن أحتضنها وأن أكون بروازها، لقد كبرت يا أبي وما زلت أشتاق إلى صدرك الحاني، والآن بكل فخر أقول إنني عندما أقرأ اسمك أشعر بأن حروفه تحتويني.. نعم تحتويني حروف اسمك يا أبي، وإنني لن أخجل أن أقول إنني أحبك.. أحبك جداً يا أبي.

 

Email