انهيار الحياة الخاصة

هل ثمة حياة خاصة للشخصيات العامة يجب إبعاد الضوء عنها وعدم انتهاك خصوصيتها؟

قد يبدو السؤال منطقياً، وله إجابات محددة حسب القانون والتقاليد، لكنه خارج السياق وإجاباته مفتوحة على مصراعيها، حسب الواقع المعاش وشبكات المعرفة الإلكترونية.

فإذا كان القانون يفرض حزاماً حول تلك الشخصيات، إلا أن الواقع بدد مفهوم الحياة الخاصة، ليس فقط للشخصيات العامة من رجال دولة وسياسيين ودبلوماسيين ونشطاء وحركات شبابية وفنانين ورياضيين، وإنما بدده أيضاً لعدد كبير من سكان المعمورة العاديين الذين ليس لهم لا في الثور ولا في الطحين.

نعم، نحن نعيش في عالم جديد بلا جدران ولا ستائر ولا أسرار، كل شيء فيه «على عينك يا تاجر»، ومتاح على شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، بما فيها أدق الأسرار السياسية العليا لدول كبرى، كما نُشرت على موقع «ويكيليكس» بصور من وثائقها الأصلية، ويمكن أن نقول الآن بكل ثقة إن العالم لم يعد يحتفظ بسر مهما كانت أهميته إلا لفترة قصيرة، أحياناً تقل إلى ساعات.

المدهش أن كثيراً من العرب من المحيط إلى الخليج، مازالوا يعيشون في العالم القديم الذي لم يعد له وجود، ويتحدثون عن الخصوصية وحرمتها وانتهاكها، حتى إن هذا السؤال قد عاد بقوة إلى الساحة المصرية وما زال مطروحاً، بعد نشر وإذاعة مئات التسريبات، سواء تليفونية أو فيديوهات، عن عدد من شخصيات ثورة 25 يناير، والمشير عبدالفتاح السيسي، ومكالمات الرئيس السابق محمد مرسي مع عناصر أجنبية..

لكن ما أذيع عن شخصيات فاعلة في ثورة 25 يناير وارتباطها بمصالح أجنبية، كان هو مفتاح التساؤل الأخير والجدل العنيف الذي وصل إلى حد السباب والشتائم بين الأطراف المتنازعة بين الخصوصية وعدم الخصوصية.

وفكرة هتك الأسرار العامة قديمة، وترجع إلى زمن الحرب العالمية لثانية، وليست فكرة حديثة كما يظن البعض، وبدأها عالم الرياضيات الأميركي نويرت وينر، وتقوم على صناعة مجتمع عالمي جديد يتمرد على العالم القديم الذي انفجرت فيه حربان عالميتان في 30 سنة فقط، عالم مفتوح بلا أسوار أو أسرار تتدفق فيه المعلومات للجميع، ويسمح لكل البشر بأن يعرفوا - في وقت واحد - ما يدور في كراتهم الأرضية، وتتضاءل فيه فرص أي رئيس أو ملك أو زعيم أو ديكتاتور في الحجب أو التعتيم على قرار أو معلومات تمس مصالح الناس، فكل الشرور ترتكب باستبعاد الناس من حسابات صاحب القرار (وقد نجحت هذه الفكرة حرفياً في حرب فيتنام، إذ انتهت عندما عرف الشعب الأميركي ما يحدث هناك)، وكان الكومبيوتر هو آلة هدم العالم القديم وبناء العالم الجديد. صحيح أن العالم الأميركي نويرت لم يتصور وقتها هذا الانفجار الهائل في المعلومات، لينتقل هتك الأسرار من عالم السياسة والاقتصاد إلى حياة الناس، والمشاهير منهم أولاً.

وكان التعريف القانوني للشخصية العامة، يحصرها في رجال الدولة والسياسيين والموظفين العموميين، أي كل من يؤدي عملاً عاماً في الدولة. لكن عالم المعلومات قلب هذا التعريف رأساً على عقب، وتوسع فيه ليشمل «المشهورين» من الشخصيات الاجتماعية، باعتبارهم مؤثرين في حياة الناس، كالفنانين والرياضين وكل من يتصدى لقضايا عامة في المجتمع، كالبيئة والتغيير السياسي والدفاع عن حقوق الأقليات وحركات التمرد ونوادي المطلقات.. الخ، أي كانت حماية الخصوصية تنسحب بالتدريج عن قطاعات عدة في المجتمع، وتضع تصرفاتهم تحت مقصلة الإعلام والصحافة.

وقد انتبه العالم إلى انهيار هذه الخصوصية مع فضيحة الأميرة ديانا، حين ظهرت على شاشات التلفزيون في تسعينات القرن العشرين، واعترفت على الهواء بخيانتها للأمير تشارلز، وبعدها راح البابراتزي بكاميراتهم يطاردونها في كل مكان، حتى قُتلت في حادث سيارة خلال مطاردة من هذا النوع.

ومع فضيحة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والفتاة المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، سقط العالم القديم تماماً، وفجرت الفضيحة سؤالاً في غاية الأهمية: هل كان نشرها مفيداً للرئيس والولايات المتحدة أم ضاراً بهما؟ وانحاز الجميع إلى النشر، إذ حرر الرئيس من ابتزاز محتمل كان يمكن أن تلجأ إليه مونيكا أو غيرها، وتطلب منه أشياء قد تكون خارج القانون وضارة بالدولة، مقابل عدم فضحه.

باختصار، لا حياة خاصة لرجال الدولة، ولا أسرار حتى لا تُستغل ضد الدولة.

وبالطبع مع اختراع الفيسبوك والتويتر على شبكة الإنترنت، انهارت الخصوصية للناس العاديين بدرجة كبيرة، فالمعلومات متاحة عن حياة أي إنسان، عمله، علاقاته الخاصة، مشكلاته، طريقة تفكيره، أصحابه.. الخ. ويمكن أن نصف شبكة الإنترنت الآن بأنها برلمان العالم الجديد، سوق حرة للأفكار والمعلومات، والشائعات والفضائح والأكاذيب أيضاً.

لكن معظم القوانين في الدول العربية لا تعترف بهذا العالم الجديد، وما زالت على تعريفها القديم للشخصية العامة.. لكن عدم الاعتراف لا يعيق الواقع، ولا يمنع التسريبات عن أي شخصية عامة أو عادية.