المفاوضات ولحظة الحقيقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

المفاوضات الماراثونية المكثفة، التي يتابعها السفير الأميركي مارتن أنديك مع مسؤولة الملف الوزيرة الإسرائيلية تسيبي ليفني، ومسؤول الملف الفلسطيني الدكتور صائب عريقات، تبدو وكأنها لحظة الحقيقة المرة، التي يحاول إنديك تأجيلها، وتعمل إسرائيل على استعجالها عبر ممارسات وشروط متطرفة، لا يقبل الطرف الفلسطيني الموافقة عليها.

المعادلة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني قد تبدو مجحفة، بالنظر للخلل الكبير في موازين القوى، وانحياز الوسيط الأميركي لصالح السياسات والمواقف الإسرائيلية، ونظراً لأن إسرائيل القوية المحتلة المدعومة من قبل الحلفاء الغربيين، تملك الكثير من وسائل الضغط الفعّال على الطرف الفلسطيني.

إسرائيل امتنعت عن الإفراج عن الدفعة الرابعة والأخيرة من الأسرى القدامى، كاستحقاق كان عليها تنفيذه في التاسع والعشرين من مارس المنصرم، مقابل امتناع الفلسطينيين عن التوجه إلى الأمم المتحدة خلال فترة المفاوضات، التي تنتهي في التاسع والعشرين من أبريل الجاري.

وما أن قرر الرئيس عباس من موقع رد الفعل على الفعل الإسرائيلي، الانضمام إلى خمس عشرة معاهدة ومؤسسة دولية، حتى فتحت إسرائيل صندوقها الأسود، عبر اتخاذ إجراءات عقابية ضد السلطة، وتصعيد مخططاتها التهويدية للقدس والمسجد الأقصى، وتكثيف وتسريع وتائر الاستيطان، بالإضافة إلى تصعيد لهجة التهديد بما في ذلك المساس بحياة الرئيس عباس.

لم يبق أحد في حكومة نتانياهو إلا وركب موجة التصعيد والتهديد، لكن كان الأغرب هو أن تشارك وزيرة العدل ومسؤولة ملف المفاوضات تسيبي ليفني، في ركوب هذه الموجة حين أطلقت تهديداً مباشراً للرئيس عباس بأنه قد يواجه مصير الرئيس الراحل عرفات.

لو وضعنا جانباً التهديدات الإسرائيلية، على قسوتها وجديتها، فإن لدى الجانب الفلسطيني من الخيارات والردود ما يحدث للإسرائيليين قلقاً حقيقياً. مبدئياً، نجح الفلسطينيون في إقناع المجتمع الدولي، بما في ذلك الأوروبيون والأميركيون، بأن إسرائيل هي المسؤولة عن فشل المفاوضات، وبأنها غير مستعدة لتحقيق تسوية مع الفلسطينيين تؤدي إلى إنهاء الصراع.

قد لا تبدو المواقف المعلنة من قبل الإدارة الأميركية، على أنها مستعدة للتعامل مع إسرائيل من موقع مسؤوليتها عن فشل المفاوضات، لكن ذلك يضعف إلى حد كبير دور الولايات المتحدة في مواجهة الفلسطينيين، حين يقررون التوجه إلى الأمم المتحدة للانضمام إلى معاهداتها ومؤسساتها، وتفعيل الملفات التي تلاحق إسرائيل.

ليس هذا وحسب، فالأرجح أن الأوروبيين مستعدون لتطوير الموقف الذي اتخذوه بمقاطعة البضائع التي تصدرها المستوطنات. والحقيقة أن فكرة مقاطعة إسرائيل اقتصادياً وأكاديمياً، قد أصبحت أمراً واقعاً بالنسبة لقطاعات واسعة من المجتمع المدني في العديد من الدول، بما في ذلك الغربية.

يملك الفلسطينيون الوسائل والآليات القادرة على تشديد الخناق حول رقبة إسرائيل وعزلها دولياً، وملاحقتها كدولة وكمسؤولين في ضوء ملفها الطافح بانتهاكات المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وبجرائم الحرب والجرائم ضد القانون الدولي الإنساني.

قبل أشهر قليلة كانت الدوائر الرسمية الإسرائيلية تحذر الكثير من المسؤولين والجنرالات، من إمكانية ملاحقتهم قضائياً في إحدى وأربعين دولة، بما في ذلك العديد من الدول الغربية التي تقيم علاقات جيدة مع إسرائيل.

وخلال الأيام الأخيرة، قبل بلوغ نقطة اللا عودة في التاسع والعشرين من أبريل الجاري، لوح الرئيس الفلسطيني محمود عباس ببعض الخيارات الصعبة على إسرائيل وعلى حلفائها الغربيين في الوقت ذاته، فالمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الحلقة الوسيطة بين اللجنة التنفيذية كقيادة يومية، وبين المجلس الوطني كمرجعية تشريعية، سيعقد جلسة مفصلية مهمة وقد تكون تاريخية، في السادس والعشرين من أبريل، أي قبل ثلاثة أيام فقط من الموعد المحدد لنهاية المفاوضات.

المجلس المركزي صاحب قرار، واستناداً إلى جدول أعماله فإنه قد يناقش مصير ووجود السلطة الفلسطينية، التي وصفها الرئيس عباس، بأنها "فندق الخمس نجوم الذي لم يعد بالإمكان أن يتحول إلى دولة"، بحسب اتفاقيات أوسلو ووفق روزنامتها.

المقصود هو أن سلطة الحكم الذاتي التي تريد إسرائيل تأبيد وجودها ودورها، تجعل الاحتلال مريحاً ومربحاً، طالما أنها تتحمل جزءاً كبيراً من الأعباء التي يتحملها الاحتلال بعلاقته المباشرة مع الشعب الذي تحتل إسرائيل أرضه.

الرئيس عباس، ربما من موقع الإحباط أو من موقع التهديد، قال أمام عدد من زواره المحسوبين على اليسار الإسرائيلي، إنه مستعد لتسليم مفاتيح هذا الفندق للمسؤول عن الإدارة المدنية وهو إسرائيلي بالطبع، أو إلى ضابط صغير في الجيش الإسرائيلي.

وفي خطوة جادة وكخيار مقلق ومرفوض من قبل الإسرائيليين، قرر إرسال وفد من منظمة التحرير وليس من فتح، إلى غزة، للاتفاق على تنفيذ المصالحة، مشدداً على أن هذه المصالحة تبدأ بموافقة حماس على تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وتحديد موعد لا يتعدى الستة أشهر لإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية.

هذا التوجه ينطوي على تحدٍّ وتهديد لإسرائيل التي تعمل على تعميق وإدامة الانقسام الفلسطيني، ولحركة حماس التي إن تمسكت بموقفها الذي يطالب بتنفيذ المصالحة رزمة واحدة شاملة، فإن الرئيس سيبادر إلى اتخاذ قرار بإجراء الانتخابات بمعزل عن موافقة حماس، والتي إن جرت فعلياً فإنها قد تعني من بين تداعيات أخرى، أن يصبح حكم حماس في غزة غير شرعي لإقليم متمرد.

واضح أن الرئيس عباس الذي أطلق العنان لمرونة زائدة، تسلح بها المعارضون الفلسطينيون لتوسيع دائرة معارضتهم حتى اتهم الرئيس بالتفريط في الحقوق الوطنية والثوابت الفلسطينية، هو الآن يفتح النار من كل الأسلحة المتوفرة لديه على دولة الاحتلال، كما على المعارضة الداخلية، دون أن يستثني إصابة الكثير من الدول الغربية وحتى العربية، التي ترى ضرورة استمرار السلطة الفلسطينية في دورها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

هكذا يبدو وكأن الرئيس الفلسطيني ينتقل من أقصى درجات ومواقع الاعتدال، إلى أقصى درجات ومواقع التطرف في مواجهة أوضاع معقدة للغاية، وعلى درجة كبيرة من التطرف في ممارسة السياسة الإسرائيلية، وتواطؤ "الوسيط " الأميركي غير النزيه، الذي يترتب عليه أن يفعل الكثير في ما تبقى من الوقت، لإنزال الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني عن أعلى الشجرات التي صعدا إليها.

 

Email