مصائر «المُقاطعة المُقدَّسة» ضد السوفييت الجُدد

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتفاقم المشكلة الأوكرانية لتعيد إلى الذاكرة سلسلة من تداعيات ما بعد الحرب الباردة، والتي أفضت في المحصلة إلى خسائر روسية مؤكدة.

حدث ذلك في عموم أوروبا الشرقية، وخاصة في بولندا السلافية التي انخلعت من ثوبها القومي السلافي، لتلتحق بركب المسيحية الكاثوليكية ذات الجذر اللاتيني، ولتكون منصة نشر للدرع الصاروخية لحلف الناتو الموجه لروسيا، وتشكل أول مسمار في خاصرة دولة ما بعد الاتحاد السوفييتي السابق، ثم جاءت حرب البلقان على عهد يلتسن لتتخلَّى روسيا الواهنة طواعية عن عمقها السلافي الممتد في قلب أوروبا.

ولتبقى روسيا القادمة من انهيار الاتحاد السوفييتي بمثابة الرجل المريض القائم لتوه من نقاهة طويلة. لكن ذلك لم يتكرر في جورجيا، فقد تغيرت روسيا على عهد "القيصر الجديد" بوتين، الخارج من رحم الاستخبارات السوفييتية والمؤسسة العسكرية ذات التقاليد العريقة في الضبط والربط، ومنظومة صناعة الأسلحة التي كانت روسيا وما زالت في أساس ميزانها الاستراتيجي العالمي الحاسم.

بوتين المهجوس بالنزعة القومية الروسية وبمورث التاريخ والجغرافيا المديدين، هو ذاته الذي تصدَّى لتكرار سيناريوهات بولندا ويوغسلافيا السابقة، وانبرى للمخطط الأميركي الناظر لمحاصرة روسيا عبر الخاصرتين الجنوبية والغربية، من خلال إغواء توليفة الأنظمة الجديدة الخارجة من رحم الاتحاد السوفييتي، وفي المقدمة منها جورجيا، خاصة وأن جورجيا اليمينية على عهد الرئيس ساكاشفيلي، ذهبت بعيداً في انخراطها الحر مع المخططات المؤذية لروسيا، حتى جاءت المفاجأة الصاعقة باجتياح القوات الروسية لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ليعلنا انفصالاً صريحاً عن جورجيا.

تالياً واستتباعاً، تماوجت الأوضاع في أوكرانيا الأكثر حساسية بالنسبة لروسيا، فتبارى فرقاء الساحة الأوكرانية من القوميين المقيمين في نوستالجيا "وطن النقاء العرقي"، الرائين لمجد الرأسمالية الموعودة وفق النموذج الأوروبي الغربي.

وكان لفساد النظام الأوكراني على عهد الرئيس المخلوع، أثر مؤكد في التداعي الحُر نحو الانهيار الانقلابي، الذي تمت مباشرته من قبل تحالف اليمين غير الليبرالي والقوميين الشوفينيين المتجاوزين لمنطق التاريخ والجغرافيا..

ذلك أن أوكرانيا التاريخية سلافية العقيدة واللغة، تنصبُّ في مجرى الأرثوذكسية الروسية العتيدة، فيما تتاخم الروسية بلغة موازية لها، بل إن الروسية تعتبر لغة الأنتلجنسيا الأوكرانية بعموم اتجاهاتها ومشاربها.

لكن هذا ليس نهاية المطاف، فهذا المنطقة التي أنجبت الزعيم السوفييتي خروتشوف، نالت هِبة استثنائية عبر تقديم شبه جزيرة القرم الروسية كهدية ناجزة عام 1954، مقابل انخراطها في الاتحاد السوفييتي، فيما ظلت ذات المنطقة خليطاً من القومية الروسية وأقليتين تتارية إسلامية وأوكرانية أرثوذكسية.

كانت لعبة شد الحبل بين روسيا والاتحاد الأوروبي واضحة المعالم، منذ مشروع الاتفاقية الخاصة بتأهيل أوكرانيا للمنظومة الأوروبية وحلف الناتو.. لكنه ليس تأهيلاً مجانياً، فعلى أوكرانيا لتنال موقعها في الاتحاد، الاستجابة لقواعد المعايير الأوروبية في مجمل جوانب الحياة.

كان المقابل الناجز للتوقيع على اتفاقية الانخراط في المنظومة الأوروبية، يوازي حمية قسرية، وتسليماً غير مشروط لانتشار الشركات الغربية العابرة للقارات، وحملة السمسونايت من مُستثمري الفرصة السانحة، وستكون المحصلة الإيجابية الافتراضية مؤجلة بكل المعاني.

وفي المقابل كانت روسيا تراقب الموقف عن كثب، مُعتدَّةً بكامل المُقدمات الاستراتيجية التي في يدها، وفي مقدمتها الغاز الروسي الذي يمثل شريان الحياة الأوكرانية في أيام الشتاء القارس، كما أن الاتفاقية الروسية الأوكرانية الخاصة بالأسطول البحري الروسي، تمثل استحقاقاً استراتيجياً يوازي الحضور الروسي المضمون في البحار الجنوبية للعالم.

تضاف إلى كل ذلك، الأدوات المحلية في شبه جزيرة القرم، والتي تتحرك بإرادة متناغمة مع موسكو، مع الاحتفاظ بمسافة قانونية واضحة المعالم. أمام هذا المستجد المُداهم، أظهر الغرب السياسي خطاباً موحداً ضد روسيا، من لندن إلى باريس مروراً ببرلين، بينما التزم حلفاء روسيا غير المُعلنين صمتاً حذراً لم تنكشف أبعاده بعد. وكعادتها باشرت الدبلوماسية الأميركية لعبتها البراغماتية الميكيافيللية المفضلة، مُلوحة بسلاح "المقاطعة المقدسة" ضد السوفييت الجدد.

ذلكم التهديد الذي يعرف المراقبون العليمون أنه لن يضر روسيا فحسب، بل سيضر الغرب ربما أكثر من روسيا ذاتها، خاصة إذا عرفنا أن 25% من مجمل الغاز الأوروبي قادم من روسيا، وأن ألمانيا لوحدها تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 30% من احتياجاتها الملحة من هذا السائل الخطير..

أما أوكرانيا القومية فإنها مهددة مرتين؛ مرة بتوقُّف إيرادات مرور الغاز الروسي عبر أراضيها، وأخرى بتوقف ضخ الغاز إليها، طالما أنها مَدينة لروسيا بمياري دولار فقط، وأن روسيا بوسعها إغلاق أنبوب الغاز بين عشية وضحاها، لتتمرغ "أوكرانيا المتمردة" في أمواج الثلوج الشتائية القادمة.

يتحدث العليمون بالاحتياطات الاستراتيجية الروسية، عن بلد يمكنه أن يستغني عن كل العالم، وينفرد بهذه الإمكانية الخاصة أكثر من غيره، كما يتحدثون عن روسيا المتحالفة مع الصين، والحاضرة في العمق الآسيوي بصورة لافتة، والتي تستعيد تقاليد علاقاتها القديمة مع العالم العربي أيضاً، كما يشيرون بالبنان إلى روسيا الممتدة من أقصى غرب العالم، لتتاخم الولايات المتحدة في أخطر خاصرة شمالية هي منطلقة آلاسكا مترامية الأطراف..

ثم تواصل تمددها الأُفقي لتصل إلى أقصى شرق العالم، متاخمة الصين وكوريا الشمالية واليابان، بمساحة إجمالية تزيد على 12 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة تساوي تقريباً مساحتي الولايات المتحدة والصين مجتمعتين.

ويضاف إلى كل ذلك، العمق الروسي المُفعَّل بوتينياً (نسبة إلى بوتين).. من خلال الاتحاد الأوراسي.

إذا لاحظنا كل ذلك سنكتشف عقم التهديد بالمقاطعة، فالعملة الصينية الصاعدة "اليوان" كفيلة بأن تحل محل الدولار الأميركي في سوق التبادل الدولي، والروبل الروسي كفيل بحل مشكلة الجنوب والشرق الأوكرانيين المُطالبين بالانفصال، من خلال استبدال عُملة المركز الأوكراني بالعملة الروسية المقرونة بدعم سخي للانفصاليين عن أوكرانيا، الباحثين عن الوحدة مع روسيا.

الحقائق السابقة تؤشر إلى أن المشكلة الأوكرانية مرشحة لتكون سبباً لشرارة تشعل حرائق كبرى، كتلك التي بدت واهية محدودة عندما شنَّ الزعيم النازي "هتلر" حرباً عبثية على بولندا، فتداعت به الأحوال واستمرأ الانتصارات المتتالية، ليغرق لاحقاً في الجليد الروسي القاتل، ويضع الأمة الألمانية ومن ناصرها من حلفائه في أسوأ مربع تاريخي، ما زالت ألمانيا ومن كان معها يدفعون ثمنه إلى اليوم.

 

Email