حين تكون المصالحة خياراً إجبارياً وحيداً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأزمة الناشبة منذ ثورة الثلاثين من يونيو العام الماضي في مصر، بين القاهرة وحركة حماس، دخلت مرحلة جديدة لم تعد تنفع لتجاوزها وإعادة إصلاح الأمور، جملة الرسائل المرتبكة التي حاولت الحركة من خلالها التخفيف من حدة التوتر مع الجار الكبير، الذي لا قدرة لها على مواجهته وتحمل تبعات غضبه. ثمة ما يشبه التعبئة العامة في مصر، لشيطنة حركة حماس وحكومتها في قطاع غزة، تلعب فيها وسائل الإعلام دوراً مكثفاً وتترافق مع إجراءات عملية على الأرض، أدت إلى إغلاق وتعطيل شبكة الأنفاق التي شكلت لسنوات الشريان الاقتصادي الحيوي الذي يمد سكان القطاع باحتياجاتهم في ظل الحصار الإسرائيلي، ويمد حركة حماس وحكومتها بمئات ملايين الدولارات سنوياً، فضلاً عن تزويد فصائل المقاومة بالكثير من احتياجاتها العسكرية ويمدها ببعض أسباب القوة.

وفي ضوء استمرار التوتر بين حماس ومصر، الذي يترافق مع اشتداد المجابهة الداخلية بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين والجماعات التكفيرية والإرهابية، تتفاقم الأزمات التي يعاني منها سكان القطاع، الذين عليهم أن يتحملوا أعباء الحصار والعدوان الإسرائيلي الذي لا يتوقف، وتزايد معدلات الفقر والبطالة، وأزمة الكهرباء والوقود، والشعور العام بالتهميش والإحباط، وتتفاقم مع أزمة المحكومين أزمة الحكم الذي تتراجع قدرته على تخفيف أعباء الحياة عن الناس.

تتصرف مصر على أساس أن حركة حماس هي الامتداد التنظيمي والأيديولوجي لجماعة الإخوان في فلسطين، وتتحدث عن ملفات تتعلق بدور حمساوي فعلي في التدخل في الشؤون الداخلية المصرية، لصالح جماعة الإخوان التي صنفها القضاء المصري على أنها جماعة إرهابية.

محكمة القضاء المستعجلة اتخذت مؤخراً قراراً بحظر حركة حماس في مصر، ومصادرة ممتلكاتها وإغلاق مكاتبها، الأمر الذي يرفع مستوى التوتر مع حركة حماس وحكومتها إلى درجة لم يعد معها ممكناً إصلاح الأمور بالوسائل التي اعتمدتها الحركة قبل قرار القضاء المصري.

والواقع أن خطاب حركة حماس اتسم بالاضطراب والارتباك والتناقض، في ما يتعلق بالنظرة للجاري في مصر والعلاقة معها، ففي حين كثف الناطقون باسم حماس والكثير من قادتها تصريحاتهم التي تؤكد أن حماس لا تتبنى سياسة التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد عربي بما في ذلك مصر، وأنها حركة تحرر فلسطينية لا يضل سلاحها السبيل نحو العدو وهو إسرائيل، فإن الإعلام المحسوب على حماس ما زال يعكس سياسة مناهضة ومعارضة للوضع القائم في مصر.

بين التزامها الأيديولوجي والتنظيمي وبين هويتها الفلسطينية، ضاعت كل محاولات حركة حماس لترميم العلاقة مع مصر، مما دفع الحركة إلى تصعيد نشاطاتها الاحتجاجية على سياسة مصر تجاهها، الأمر الذي يفتح على المزيد من التوتر وردود الفعل السلبية من الطرفين كل تجاه الآخر. الإجراءات المصرية ساهمت إلى حد كبير في تفاقم أزمات حركة حماس المالية والاقتصادية والإدارية، وجعلت الحكم عبئاً على حماس بدلاً من أن يكون نموذجاً لنجاحها وتقدمها، مما يضع حماس وحكومتها أمام خيارات محدودة وصعبة.

لا تستطيع الحركة أن تتخلى عن الحكم من خارج إطار مصالحة فلسطينية لاتزال تنتظر نضج الظروف الذاتية، وقد حاولت دون جدوى إقناع الفصائل بالمشاركة في إدارة الوضع في القطاع، وهي في الوقت ذاته لا تستطيع مجاراة التوتر مع مصر وتحمل التبعات الثقيلة المترتبة عن ذلك، الأمر الذي يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما.

الخيار الأول ما يمكن اعتباره خيار شمشون، بمعنى تصعيد الوضع العسكري مع إسرائيل بهدف إحراج الدول العربية، بما فيها مصر والسلطة الفلسطينية، ولإعادة تنشيط حركة التضامن العربي والدولي معها، ونحو فرض قواعد مختلفة للعبة السياسية يمكن أن تذهب إلى التأثير على مفاوضات التسوية الجارية.

هذا الخيار ليس حصراً بقطاع غزة، ذلك أن حماس تملك ما يؤهلها لتصعيد العمل العسكري في الضفة الغربية والقدس، ولأن تبرر ذلك بقسوة المخططات الإسرائيلية الاستيطانية والتهويدية. على أن هذا الخيار ينطوي على مغامرة شديدة الخطورة، إذ إنه قد يكلف حماس وجودها وحكمها في القطاع، خاصةً وأن إسرائيل تنتظر بل وتعتمد على استدراج المبررات والذرائع لارتكاب عدوان واسع على القطاع، وربما تعتبر ذلك خدمة كبيرة للتسوية التي تعارضها حماس بقوة.

الخيار الثاني، وربما كان المخرج الوحيد، هو المصالحة الفلسطينية، ذلك أن انخراط حماس في النظام السياسي الفلسطيني وفي إطار الشرعية الفلسطينية، سيخفف عنها أعباء المواجهات المنفردة، لكن هذا الخيار أيضاً ينطوي على تكاليف ستكون بكل المعايير أقل من تكلفة خيار شمشون.

خيار المصالحة يتطلب من حماس تقديم إجابات واضحة عن أسئلة صعبة ومؤلمة، تتصل أولاً بالموقف السياسي من التسوية، وثانياً بالموقف من كتائب وأسلحة المقاومة، وثالثاً بالموقف إزاء نحو خمسة وخمسين ألف موظف عسكري ومدني يشكلون قوام سلطتها في قطاع غزة.

ورغم أن حماس يمكن أن تقدم تنازلاً بخصوص تشكيل حكومة الوفاق الوطني وتحديد موعد قريب للانتخابات، فإنها لا تملك حتى الآن الإجابة عن الأسئلة السابقة، إذ لن تقبل فتح بأن تتشكل حكومة الوفاق الوطني في ظل وجود كتائب عسكرية، تملك القدرة على تعطيل أي قرار للحكومة أو للقيادة الفلسطينية، وتشكل القوة الأكثر تأثيراً في أوضاع القطاع، خصوصاً وأن السلطة بادرت في سنوات سابقة بحل كل الكتائب، بما في ذلك كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح في الضفة الغربية.

تأخرت حركة حماس كثيراً في اتخاذ القرار والخيار المناسب، ولم تستمع للنصائح التي قدمها الكثير من الفصائل والشخصيات الوطنية، غير أن عليها أن تدرك أن الأوضاع تتجه نحو المزيد من التفاقم والتأزم، وبالتالي فإن الحكمة تقتضي الاستعجال في اتخاذ القرار السليم والمناسب، وإلا فإن مرور المزيد من التأخير ينطوي على المزيد من التكاليف، فلقد كان أمس أفضل من اليوم واليوم أفضل من الغد. في السياسة ليست هناك عداوات مطلقة أو تحالفات مطلقة، وتغيير واقع الحال السيئ إلى ما هو أفضل، يحتاج دائماً إلى قرارات صائبة، ويحتاج أيضاً إلى دفع تكاليف هذا التغيير.

Email